في اطروحته لشهادة الدكتوراه من كلية العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة لوزان سويسرا والمعنونة ب "الفن الإسلامي: مقاربة سوسيولوجية لمجهولية الفنان"، يستهدف الشاعر والرسام العراقي شاكر لعيبي التفتيش عن توقيعات الفنانين في الفن الإسلامي ودلالاتها من الناحيتين الاجتماعية والثقافية، من بين مسائل أخرى. ويحاول البرهنة على أن الفكرة السائدة القائلة إن الفن الإسلامي هو فن من غير فنانين - أي اننا نعرف الاثر الفني من دون أن نعرف صاحبه - هي فكرة باطلة تماماً. ومن أجل ذلك أجرى لعيبي جردة واسعة للآثار الفنية الإسلامية في المتاحف العالمية والعربية، واستخرج منها اسماء فنانين كثيرين وردت بصيغ مختلفة من قبيل: "هذا عمل فلان في سنة كذا" أو "عمله العبد الفقير فلان في سنة كذا" وغيرها. ويعود أقدم هذه التوقيعات إلى القرن الثامن الميلادي، وهي كتبت على القطع الخزفية أو النحاسية أو الآثار المعمارية. وسألته في لقاء أجريته معه في لندن: يوجد الفنان إذن عبر توقيعه، وهذا ما برهنت عليه. ولكن لماذا لا نجد له ذكراً في المصادر التاريخية؟ لماذا لم يؤرخ لحيوات الفنانين والحرفيين المسلمين؟ - هذه مسألة تاريخية لا تتعلق بتاريخ الفن الإسلامي وحده، والتوقيعات كما نعرفها والتأريخ للفنانين لم تحدث في أوروبا إلا في القرن الرابع عشر الميلادي عندما ظهر جيوتو، ولم يكن يوجد ذكر لتوقيع قبل كتاب "فزاري" عن حياة أشهر المعماريين والنحاتين والرسامين الايطاليين حيث كان الفنان يعتبر مجرد حرفي وشغيل يُقيَّم عمله على أساس كونه نتاجاً يدوياً غير ثقافي وغير راقٍ. إن الفن الإسلامي يطرح على هذه الفكرة مجموعة من التساؤلات والكثير من المفارقات. فهذا الفن الذي استمر بالانتاج منذ القرن السابع الميلادي إلى نهاية القرن الرابع عشر - وهي بداية عصر النهضة - وفزاري كان في الحقيقة قبل ذلك - ينتج تواقيع للفنانين ضمن نسبية شديدة من المجهولية، ذلك ان المراجع التاريخية تشير إلى حضور هؤلاء اما بطريقة مراوغة بصفتهم ادباء أو فقهاء أو بطريقة صريحة - نادراً - بصفتهم حرفيين يشتغلون في النقش والصياغة والنسيج وصناعة النحاس أو حتى الرسم. إلى أين قادك ذلك الاستنتاج؟ - انتجت تلك المفارقة صورة غائمة عن الفنان في الضمير الثقافي، ونحن لا نتكلم هنا عن الخطاط لأسباب كثيرة تتعلق بطبيعة الاطروحة. ففي الوقت الذي يتقبل المجتمع العمل الفني كونه عملاً جميلاً ووظيفياً في آن، فإنه لا يتقبل منح الفنان صيغة من الاعتراف الثقافي أو حتى من الاحترام الاجتماعي. وبقي الفنان على الدوام حرفياً على رغم المسافة الواضحة التي تفصله عن باقي الحرفيين. وهكذا، فإن "الصورة المتخيلة" للفنان المسلم في الضمير الثقافي العام تتطابق حرفياً مع صورته لدى جميع الثقافات الأخرى، وهي - ويا للغرابة - في المصادر المكتوبة تذهب بالدرجة الأولى إلى الرسام أي إلى المقلد الفذ للطبيعة، القادر على نقلها بطريقة واقعية أو ايهامية. طرحت مجموعة من الأسئلة عن الفنان المسلم وموقعه والأهمية التي كانت تمنح لنتاجه، وحاولت في معرض الاجابة عليها اعطاء صورة مختلفة لذلك الفنان! - نعم حاولت ذلك لدرجة اعتقد بأنها أدق بكثير مما توحي به النقود والدراسات المكتوبة غربياً وعربياً، من أجل تغيير الصورة المعروفة عن الفنان المسلم حتى الآن. ومن ذلك مسألة نفي الارادة والخيار التي يُعتقد بأن واحداً من نتائجها استبعاد فردية الفنان، وبالتالي إلغاء حضوره الشخصي بما في ذلك توقيعه. ومسألة من هم البناة الأوائل للفن الإسلامي: هل هم بالفعل من الساسانيين والبيزنطيين أم من السكان الاصليين في منطقة الشام، وما هي اسماؤهم ووظائفهم في المحلية/ الثقافة المتأثرة بالطبع بالتيارات الكبرى في القرنين السادس والسابع للميلاد؟ كذلك اعالج في فصل خاص مشكلة الفنان المسلم ضمن سلم الأفضليات الحرفية، بمعنى أين يمكن أن نضعه بين جميع الحرفيين أو المبدعين في عصره وأين يقع "اعتبارياً" على سلّم الخيارات الحرفية، وما هو دور "التحفة الفنية" وأهميتها وسعرها في عصر الفن الإسلامي الذهبي ومن كان يقتنيها أو يتاجر بها. أشرت أيضاً إلى ضرورة القراءة الجديدة لتاريخ الفن الإسلامي وإعادة اكتشاف النصوص الأدبية ومقارنتها بالموجودات الاثرية، وأخذت على المصادر والدراسات العربية المتوافرة حالياً سطحيتها واعتمادها المباشر وغير المباشر وأحياناً الكلي على المصادر الأوروبية؟ - يبدو ان المشكل الكبير هو عدم وجود متخصص حقيقي بتاريخ الفن، ثم بتاريخ الفن الإسلامي. ففي حين انتج العالم الإسلامي - غير العربي - بضعة باحثين يُشار إليهم بالبنان في الأوساط العلمية عندما يتعلق الأمر بالفن الإسلامي، مثل الإيراني أسدالله شيرفاني، على رغم نزعته القومية، والتركي اوقتاي أصلانابا، فقد ظل العالم العربي يشكو، بعد بشر فارس ومحمد حسن زكي، من فراغ مطبق في هذا الحقل الحيوي. السبب في غياب التخصص بتاريخ الفن الإسلامي هو ان هذا الحقل يستدعي مجموعة صعبة من المعارف: التاريخ، تاريخ الأديان والفكر، تاريخ الاشكال والحضارات، علم الحفريات بشكل أساسي أي الاركيولوجيا، وعلم الانثروبولوجيا وحتى اللغات القديمة. معارف لم تتهيأ للمثقفين العرب الذين استسهلوا تاريخ فنهم فظلوا، فقط، ينقلون من دون تمحيص من الكتابات الأوروبية. أو أنهم عندما يعودون إلى النقد الأوروبي الطالع مباشرة من رحم الاستشراق إنما يعيدون المفهومات ذاتها. ففي حين أجرى العالم العربي نقداً أساسياً للاستشراق بعد إدوارد سعيد، على رغم كل ما يمكن أن يُقال عنه، فإنه لم يستطع البتة القيام بالنقد ذاته في مجال الفن البصري الإسلامي. فأحياناً يصير الفكر القومي أساساً نظرياً لقراءة الفن الإسلامي، كما لدى عفيف بهنسي الذي لا يقوم بأية اضافة جوهرية للاستشراق الفني على رغم نقده الظاهري الحاد له. أو تعتمد القراءة والأدوار المناطة بالفنانين والحرفيين في مجال قراءتها، كما لدى سمير صايغ الذي يعد من دون تمحيص بمناسبة حضور أو عدم حضور توقيعات الفنانين ما يقال في الادبيات الغربية. وفي أحيان أخرى يتحول التأليف في مجال الفن الإسلامي إلى مجرد سطو ولصوصية لا يُحسد عليها مؤلفوها. وللنظر إلى هاتين الفضيحتين: ان كتاب الدكتور ثروة عكاشة الضخم 495 صفحة "التصوير الإسلامي، العربي والديني" الصادر في بيروت العام 1977 إنما مادته الأهم هي ثمرة سطو مباشر على كتب أخرى. فإذا تجاوزنا جزءه الأول الذي سأتعرض في مناسبة قادمة لصلته غير المسرة والتي لا يحسد عليها المؤلف بكتاب سير ارنولد توماس "الرسم في الإسلام" الصادر في نيويورك العام 1965، فإن جزءه الثاني هو كتاب أتنغهاوزن بعينه Arab Painting الصادر العام 1962. إن أسفاً عميقاً يعتصر قلب القارئ وهو يكتشف كيف يتم ببساطة تحويل جهد مؤلف أجنبي أمضى قرابة الثلاثين عاماً من دراسة الفن الإسلامي، وبحب عميق، لصالح عربي لم يفعل إلا استنساخه بحذلقة غريبة، ذلك أنه يشير بين فينة وأخرى في نهايات الصفحات إلى الكتاب المذكور وكأنه يريد أن يقول لنا انه - على رغم كل شيء - أشار إلى مصدر دراسته... ولكن المصدر في الحقيقة منقول بقضّه وقضيضه وبتحليلاته واشاراته ومصادره. أما السرقة الأخرى فهي الأدهى، كتاب الدكتور سامح كمال الدين "العمارة في صدر الإسلام" الصادر في القاهرة. هذا المؤلف هو استاذ كرسي العمارة في جامعة القاهرة، ومن دون أن يرف له جفن يترجم كتاباً من الانكليزية ويضع عليه اسمه! ويذهب به ازدراء القارئ إلى درجة أنه لا يبذل حتى جهد مراجعة اسماء العلم، الاماكن والاشخاص، التي ينقلها من الانكليزية. فعندما لا يعرف كيف يترجم الاسم العربي القديم أرطأة من الانكليزية فإنه يقترح علينا اسم عرطاط من بين أشياء مخجلة كثيرة أخرى! وأود أن أشير إلى حالة ثانية حيث تشترك طريقة عمل كتاب سمير غريب المعنون ب "السوريالية في مصر" بطريقة عمل كتاب ثروت عكاشة المشار إليه آنفاً. ففي حين أنه يسطو بالكامل على عمل صدر بالفرنسية عن رسام مصري سوريالي، فإنه لا يفعل، من أجل التمويه على القارئ ولكي يقول انه أشار على الأقل إلى المرجع، سوى سرقة حرفية لهذا المرجع: في نهايات المقاطع الطويلة جداً والكاملة للغاية، نجد علامة تحيلنا إلى الكتاب الأصلي. إن هذا النمط من الجهد التأليفي المتذاكي الذي هو الاسم الآخر للسرقة، هو علامة من علامات تاريخ الفن لدينا. ولهذا الأمر أكثر من دلالة: ان تاريخ الفن الاسلامي لم يَصر حتى اللحظة مادة مُحترمة ومرهوبة ثقافياً، وان معارف القارئ العادي المستهان بها لم تزل على درجة عجيبة من الضعف تسمح بهذا النمط المتحذلق من السرقة. لا يجرؤ في الحقيقة ايما مؤلف أوروبي على القيام ب "اعداد" من هذا القبيل. ان المشرف المهني لمؤرخ الفني وللكاتب يحتاج إلى فحص عميق لدينا عبر هذه النماذج التي نطرحها أمام القارئ العربي العادي، ونحن نعرف سلفاً ردود هؤلاء المؤلفين وتبريراتهم كما نعرف على وجه الدقة مصادرهم الاصلية ومصادر وعيهم.