لو سئل بعض هواة القراءة عن جدوى قراءتهم لما كانت أجوبتهم تختلف عن تلك التي يجيب بها الكتّاب عادة حين يُسألون عن جدوى الكتابة. فالرغبة في القراءة لدى هؤلاء لا تختلف عن الرغبة في الكتابة لدى الكتّاب. وكم من الكتّاب تمنّوا ولو ظاهراً أن يكونوا قرّاء فقط بعدما خبروا التجربتين معاً. وكم من القرّاء أحسوا بأنهم أقرب الى الكتّاب من خلال ما يقرأون بل من خلال تلك اللذة التي تمنحها القراءة الحقيقية. ولا غرابة ان يعلن بورخيس القارئ النهم والكاتب النهم أن القراءة أجمل من الكتابة إذ أنها تمنحه سعادة تفوق تلك التي تمنحه إياها الكتابة. ولم يكتف بورخيس بهذا المديح للقراءة بل اعتبر الكتابة استعادة للقراءة نفسها. أما الكتاب في نظره فهو لا يُكتب مرّة واحدة عبر كاتبه بل يكتب باستمرار كلّما أعيدت قراءته. ليست القراءة الحقيقية طبعاً مجرّد هواية او مجرّد "مطالعة" للكتب، إنها صنو الكتابة وفعل إبداعي لا يخلو من المتعة ولكنّه لا يخلو أيضاً من بعض الجهد. وكلّما وقع القارئ على نص جميل أحسّ في قرارته ببعض الغيرة مصحوبة بالإعجاب والمتعة. وإن كان ماركيز حسد الكاتب الياباني كواباتا على كتابه "الجميلات النائمات"، فليس من المستهجن ان يحسد بعض القراء كتّابهم الذين يقرأونهم. وحين قرأ ماركيز ذاك الكتاب الجميل لم يخف إعجابه به بل أعلن جهاراً أنه كان يتمنى ان يكون كاتبه. ولعلّ غيرة مثل هذه الغيرة هي دليل على عمق الأثر الذي تتركه القراءة في وجدان القارئ سواء كان قارئاً عاديّاً أم كاتباً يهوى القراءة. ومثلما لا يتمّ الكتاب بلا كاتب فهو لا يكتمل من دون قارئه. يحتاج الكتاب الى الكتابة والقراءة معاً. الكاتب يكتبه بقلمه والقارئ يعيد كتابته عبر عينيه ومخيّلته كما يعبّر بورخيس أيضاً. ومهما حاول بعض الكتّاب التخلّص من هاجس القارئ معتبرين الكتاب صنيعاً قائماً بذاته فهم يحتاجون حتماً الى مَن يقرأهم كي يكتمل فعل كتابتهم. فالكتاب يتوجه عادة الى قارئ ما، والقارئ هو الذي يمنح الكتاب شرعيته وإلا فلماذا يطبع الكتّاب كتبهم؟ ولم يخطئ سارتر حين أشار الى أن عملية الكتابة تفترض عملية القراءة عبر صلة ديالكتيكية. فالنص يصنع القراءة والقراءة تصنع النص بدورها. إنها لعلاقة ملتبسة حقاً: القراءة التي تخضع لسلطة النص تفرض على النص حكمها. وكم من النصوص ماتت تبعاً لانتفاء قرائها أي لأنها لم تجد مَن يقرأها. وكم من النصوص راجت لأن قراءها أحيوها مرّة بعد مرّة. القارئ كاتب ثانٍ للنص إذاً. الكاتب الأول، كي لا أقول الحقيقي، يكتب كتابه وينساه: يصبح كتابه ملك قارئه بل قرائه. لكنّ القراءة تختلف من قارئ الى آخر. واختلاف القراءة ضروري بل طبيعي لأنه يؤكد انفتاح الكتاب على تأويلات مختلفة. والكتاب الحقيقي هو الذي يضمر معانيه ويترك في أذهان قرّائه فسحات من البياض كي يملأوها هم بأنفسهم. فالكتاب أصبح ملكهم وهم أحرار في قراءته، أحرار ولكن في المعنى الراقي للحرّية، في المعنى الطليعيّ والمعنى الثقافي... هكذا لا يُسمح مثلاً أن تُقرأ رواية "المحاكمة" لكافكا كمجرّد رواية بوليسية كما يعبّر أمبرتو إيكو. تصبح القراءة هذه تحريفاً للنص ناجماً عن سوء فهم حقيقي. وقراءة محرّفة كهذه ليست حرّة في أي حال، إنها قراءة مجتزأة، خبيثة أو على قدْر من الغباء. القراءة استحقاق فعليّ لأنها كتابة أخرى للنص المكتوب أصلاً. إنها في هذا المعنى أشد صعوبة من الكتابة. فالقارئ لا يقرأ فقط، بل يقرأ ويكتب في الحين عينه ولو عبر عينيه ومخيّلته. أما الكاتب فيكتب لقارئ يجهله حتى وإن استدركه ككاتب يقرأ بدوره. إلا أن القراءة مهما صعبت والتبست تظلّ رغبة من الرغبات الجميلة والكبيرة. إنّها "طريقة عيش" كما يصفها أحد الروائيين الفرنسيين. إنّها قراءة ضدّ الموت، قراءة تمنح صاحبها القدرة على مواجهة الحياة نفسها، على تبديل الحياة. القراءة هي كالحبّ تمنح صاحبها عزاء في عالم قاسٍ ومملوء بالخيبات. هكذا نفهم لماذا غالى مارسيل بروست في مديح القراءة في كتابه الشهير "عن القراءة". وهكذا نفهم أيضاً لماذا تخيّل بورخيس الفردوس في هيئة مكتبة، ولماذا بدا الكتاب في نظره أجمل ما ابتكر الإنسان وأجدى ما ابتكر. نحن نقرأ إذاً نحن نكتب. نكتب من غير أن نحتاج الى أي قلمٍ وأي ورقة.