مع هبوط الطائرة الايسلندية في مطار بغداد، تدخل ايسلندا، ربما للمرة الأولى بهذا الشكل البارز، مسرح شؤون الشرق اوسط. هل ان هذه الخطوة بادرة دور لايسلندا في القضايا العربية مرشح للاستمرار، أم هل تبقى مبادرة يتيمة؟ كتب حسن منيمنة: قد تصلح ايسلندا نموذجاً للكشف عن حاجة مؤسسات المجتمعات العربية الى التواصل مع مثيلاتها في سائر أنحاء العالم والفرص المتاحة لها لهذا الغرض. ذلك ان المعطيات الموضوعية للمجتمع الايسلندي تؤهله ان يكون سنداً للمؤسسات العربية في القضايا التي تعنيها، سواء على الصعيد الداخلي، فيما يتعلق بحقوق الفرد والجماعة، أو على الصعيد الخارجي ولا سيما في موضوع القضية الفلسطينية والصراع العربي - الاسرائيلي. ايسلندا جزيرة نائية يقطنعها عدد قليل من السكان لا يتجاوز ربع مليون نسمة والجزيرة التي تطغى على طبيعتها جبال الثلج الدائم والبراكين، رغم انها تفتقد الموارد الطبيعية، ذات موقع استراتيجي مهم في شمال المحيط الأطلسي. وتاريخ ايسلندا الذي يبتدئ مع قدوم أول المهاجرين اليها من النروج في القرن العاشر، ذو أهمية فريدة على مستويين، فايسلندا، بلغتها وتراثها الأدبي الشفهي وأصول الحكم والتنظيم الاجتماعي فيها، تختزن صلب التراث المشترك للشعوب الاسكندينافية والجرمانية والانكلوساكسونية. والاهتمام الذي يوليه المعنيون بثقافات هذه الشعوب بايسلندا، ولجوئهم الى القصص والأساطير المتداولة فيها عبر الأجيال يخرجها ثقافياً عن العزلة التي فرضتها عليها الجغرافيا. ولايسلندا كذلك اهمية فريدة فيما يتعلق بدراسة حركة التاريخ الانساني ونشأة "المجتمعات الجديدة" أي المجتمعات المتكونة من المهاجرين فايسلندا هي أول "مجتمع جديد" أوروبي ناجح. ورغم انها قد نشأت قبل غيرها من "المجتمعات الجديدة" بأكثر من خمسة قرون، فإنها تبرز السمات الأساسية لهذه المجتمعات من الانصهار الثقافي للمهاجرين الوافدين رغم تعدد خلفياتهم، والوحدة والاستمرارية اللغويتين، والانتشار الجغرافي، والمبادرة الفردية، والتمثيل السياسي المتكافئ. يذكر هنا ان نشأة المجالس التمثيلية في ايسلندا قد سبقت انطلاق الديموقراطية تنظيراً وتطبيقاً في سائر الغرب بقرون. ويلاحظ في الساحة الثقافية الايسلندية وعي راسخ لأهمية هذه المقومات، لا سيما منها المبادرة الفردية وما يستتبعها من ابراز للحرية، والتمثيل السياسي المتكافئ وما ينتج عنه من تركيز على العدالة الاجتماعية، في توجيه الخطاب السياسي في البلاد. فتوقعات المجتمع الايسلندي من مؤسساته السياسية هي ان تعمل هذه المؤسسات لتثبيت الحرية والعدالة في الداخل، وللمساهمة في تحقيقها في الخارج وفي حين يشترك العديد من المجتمعات الغربية لا سيما "الجديدة" منها في هذه التوقعات فإن المجتمع الايسلندي يكاد ينفرد في انه لا يعاني عبء تاريخ مثقل بالماضي أو الاستعمار أو الاستبداد العنصري. بل ان ايسلندا وحدها دون غيرها من "المجتمعات الجديدة" لم تقم على تغييب السكان الأصليين للبلاد أو ابادتهم أو ازالتهم، حيث ان الجزيرة كانت عملياً خالية عند وصول المهاجرين اليها وفي ما يطال قضية الشرق الأوسط بشكل غير مباشر، فإن الساحة الثقافية الايسلندية لا تعاني من "عقدة" المحرقة اليهودية. ذلك انه لم يكن في ايسلندا جالية يهودية، وعلى رغم الرصيد الثقافي المشترك بين ايسلندا وألمانيا، فإنه لم يبرز في ايسلندا أي تأييد يذكر للنازية قبيل الحرب العالمية الثانية وأثنائها. ولا يعني خلو الثقافة الايسلندية من عقدة المحرقة ان المجتمع الايسلندي بشكل عام يضمر أي عداء لليهود، بل العكس هو الصحيح فانطلاقاً من أسس العدالة التي يشهرها هذا المجتمع، يجد موضوع المحرقة ومأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية اهتماماً واسعاً في الأوساط الايسلندية. ولكن هذا الاهتمام لا ينطلق من عقدة ذنب تشل الفرد والمجتمع عن الالتفات الى أي تجاوز ترتكبه ضحية المحرقة أي "اليهود" بالصيغة الأحادية النمطية التي تضم المجتمعات اليهودية التي تعرضت للابادة ودولة اسرائيل على حد سواء تحت طائلة الاتهام بالعنصرية الكامنة، كما هي الحال في معظم الدول الغربية. لماذا اذن، رغم توافر المعطيات الملائمة، لا تجد القضايا العربية الاهتمام الكافي في ايسلندا؟ لا بد للاجابة عن هذا السؤال من قراءة سريعة للتاريخ الايسلندي الحديث. فبغض النظر عن الخلفية الثقافية الفائقة الثراء وعن القيم والمبادئ التي يعتنقها المجتمع الايسلندي، تجدر الملاحظة ان خروج ايسلندا من عزلتها النائية وبروز حضورها على الساحة الدولية لم يتحقق الا في أعقاب الحرب العالمية الثانية مع اقامة الولاياتالمتحدة لقواعدها العسكرية فيها. وما ينتج عن ذلك من ضخ أموال الى الجزيرة ونهضة اقتصادية فيها. والواقع ان عموم الايسلنديين يسلمون طوعاً بأهمية الدور الأميركي في اخراجهم "من باطن الأرض، حقيقة ومجازاً" على حد تعبير أحدهم، اشارة الى الطراز المعماري لمنازلهم والشائع قبل الوفرة الاقتصادية، والقائم على طمر بعض اجزاء المنزل للحفاظ على الحرارة فيه. وينعكس هذا التسليم على السياسة الخارجية لايسلندا، والتي تتجنب قدر الامكان مخالفة الولاياتالمتحدة فيما يتعدى بعض المواقف المبدئية. فلكل من الخط السياسي الأميركي تجاه القضايا العربية، وحداثة الانخراط الايسلندي في الساحة الدولية سياسياً وشعبياً وما يرافقه من عدم اطلاع على تفاصيل أوضاع الشرق الأوسط، دور في الحجم المتواضع للاهتمام الايسلندي بالقضايا العربية. كما ان الذاكرة التاريخية الايسلندية، والتي تستقي من الحصيلة التاريخية الأوروبية العديد من محتوياتها، ترى في "المسلم" و"العربي" نوعاً من "الآخر". فالموقف الأولي من هذا الآخر ليس موقف عداء بقدر ما هو موقف حذر. والواقع انه ثمة حدث في التاريخ الايسلندي من شأنه ان يدفع هذا الحذر الى مستوى الريبة، وهذا الحدث، الذي تعرفه كتب التاريخ الايسلندي باسم "الغارات التركية" هو قدوم قراصنة مسلمين من الجزائر الى ايسلندا في القرن السادس عشر، واختطافهم العشرات بعد الفتك بالعديد غيرهم والاعتداء على قراهم وفي حين لا يجوز تضخيم أهمية هذا الحدث في رسم الموقف الايسلندي من الآخر المسلم، فإن ايسلندا لم تشهد العناصر الايجابية التي من شأنها تجريد "آخرية" المسلم والعربي من سلبيتها الممكنة. والواقع ان الموقف الايسلندي من "الآخر" غير الأوروبي ما زال في طور التشكل يذكر هنا انه، انطلاقاً من القناعات المبدئية السائدة في المجتمع الايسلندي، استقبلت ايسلندا في العقدين الماضيين ألوف عدة من المهاجرين الجدد. لا سيما منهم الفيتناميين. ويمكن تقييم عملية استيعاب هؤلاء المهاجرين بأنها كانت ناجحة بشكل عام. ولكن قدوم هؤلاء المهاجرين قد ترافق مع ارتفاع ملحوظ في الاجرام ومستوى الاجرام يبقى رغم هذا الارتفاع من ادنى المستويات في العالم، مما أدى الى بعض الفرز في مواقف الايسلنديين والى بروز قدر محدود من أشكال الخطاب المعادي لغير الأوروبيين. إذن فالعوامل المؤثرة في الدور الايسلندي في القضايا العربية ثلاثة: الدور الأميركي، وهو عامل سلبي مرشح ان يستمر على حاله، وتأثيره بارز فيما يتعلق بالمؤسسات الرسمية في ايسلندا، ولكنه محدود في ما يتعلق بالمؤسسات الأهلية فيها، حداثة الانخراط في الشؤون الدولية، وسلبية هذا العامل مرشحة ان تتقلص مع مرور الزمن، والموقف من "الآخر" غير الأوروبي، وهذا العامل فيما ينضوي عليه من سلبية وايجابية يشهد لتوه قدراً من الاستقرار. ولا بد من الاشارة الى عامل اضافي فائق الأهمية، لا سيما في مجتمع بحجم المجتمع الايسلندي، وهو العامل الشخصي. فباستثناء توقف للملك حسين، عاهل الأردن، في ايسلندا، في طريقه الى الولاياتالمتحدة، قل ان شهد المجتمع الايسلندي وجهاً عربياً بارزاً. وعدد المواطنين العرب المقيمين في ايسلندا ضئيل جداً بالمقارنة، فإن للسفارة الاسرائيلية في العاصمة الايسلندية ريكيافيك نشاطاً ملحوظاً. ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شمعون بيريز صديق شخصي لرئيسة ايسلندا السابقة، وهديته لها، وهي عبارة عن شمعدان هو شعار اسرائيل، بقيت تزين مكتبها لأعوام. وكاد العامل الشخصي ازاء القضايا العربية في ايسلندا ان يكون سلبياً لولا الجهود المستمرة لناشط واحد على الأقل هو الياس ديفيدسون. فدايفيدسون، وهو ملحن وموسيقي، جعل من القضية الفلسطينية منذ مطلع الثمانينات، ومن قضية الشعب العراقي منذ حرب الخليج محور اهتمامه المستمر وقد عبّر دايفيدسون خلال مقابلة معه العام الماضي من استيائه من غياب الاهتمام العربي بايسلندا. والجدير بالذكر ان دايفيدسون هو ايسلندي من أصل اسرائيلي، الا انه لاصراره على رفض الصهيونية يفضل ان يعرف نفسه بأنه من أصل فلسطيني ناطق بالعبرية. وقد واظب دايفيدسون على مدى الأعوام الماضية على الظهور اعلامياً للتعبير عن مواقف مؤيدة تنادي بحق اقامة الدولة الفلسطينية وتدعو لرفع العقوبات عن العراق. ولا شك ان هذا الظهور في المجتمع الايسلندي الشغف بالاعلام من دون ان يعاني من التخمة فيه، قد ساهم في شحذ الجهود التي حققت رحلة طائرة المساعدات الى بغداد. وفداحة المعاناة في العراق هي التي مكنت هذه الجهود من التجسد بشكل مساعدات عينية من مؤسسة اهلية ايسلندية. اما هل تصبح هذه الخطوة أساس علاقة مستمرة أو تبقى خطوة يتيمة فليس امراً محتماً. أي ان الباب مفتوح أمام المؤسسات الأهلية العربية، للتواصل مع مثيلاتها في ايسلندا، والا بقيت مبادرات هذه الأخيرة رهناً بضخامة الكارثة التي تلم بالمجتمعات العربية وحسب. وليست ايسلندا أهم دولة غربية، ولا أعظمها، ولا أثراها، ولا أكثرها سكاناً. ولكن الاهتمام بالتواصل مع ايسلندا، وغير ايسلندا، هو في نهاية المطاف الشاهد على مستوى نضوج المؤسسات الأهلية العربية.