يعتبر المراقبون في كانبيرا وجاكارتا ان الخسوف الاقتصادي المروّع الذي يعصف حالياً بمنطقة جنوب شرق آسيا سيؤدي الى انهيار أنظمة، وذوبان جليد جارف في المسلمات السياسية، مما سيسبب اضطرابات واسعة، خصوصاً في اندونيسيا. ذلك ان اندونيسيا، البلد الأكبر في الهند الصينية، كانت حتى أمس قريب مثال الاقتصاد الثابت والسريع النمو، وطالما اعتبرها الغرب نموذجاً للنهضوية المدهشة التي حذت حذوها ماليزيا والفيليبين وتايلاندا وهونغ كونغ، وكلها تتهاوى بعد الزلزال الماليزي كحجارة الدومينو. معدل سقوط عملاتها بلغ حتى كتابة هذه السطور 23 في المئة خلال أقل من ستة شهور، والهلع في بورصاتها وأسواقها آخذ في التعاظم. وجاء الانهيار الكوري الجنوبي الأخير يضيف الى الطين بلة، فالبنك الدولي بات عاجزاً عن ضخ إعانات قد لا يكون تحتها طائل، طالما ان الفساد والمحسوبية وطغيان اللاعبين بالعملة عوامل من شأنها ان تحبط أي تنفيس اصطناعي للأزمة. وبدأت في الأيام القليلة الفائتة تحركات سياسية ضخمة في اندونيسيا، هدفها التصدي للتدهور الاقتصادي وتطويق اندلاع الاضطرابات العرقية والاضرابات الواسعة. وللمرة الأولى منذ بداية حكم سوهارتو تلوح في الأفق المنظور ائتلافات سياسية لتجميع قوى المعارضة والمطالبة بتنحي سوهارتو، ولو لأسباب صحية. رئيس "المنظمة المحمدية" أميان ريس، دعا قائد "نهضة العلماء" عبدالرحمن وحيد، وميغاواتي سوكارنو بورتي، ابنة سوكارنو، الى توحيد الصف لانقاذ البلاد. "يبلغ عدد اتباع هؤلاء حوالى 70 مليون اندونيسي، فنهضة العلماء وحدها تضم 38 مليوناً. وفي ردّه على الدعوة قال عبدالرحمن وحيد: "نشعر ان ما يجمعنا راهناً هو الحاجة الى اصلاح سياسي". كما وافقت ميغاواتي على الفكرة لعلها تخرجها من الحجر السياسي المفروض على تجمعها الديموقراطي. ويأتي الضغط على سوهارتو من كل حدب وصوب. ثوار تيمور الجنوبية يستغلون الفرصة لعرض قضيتهم على العالم، ضاغطين من باب حقوق الانسان، ملوحين في الوقت نفسه بتصعيد عسكري، لن يؤدي الا الى مزيد من سفك الدماء في ظل التوتر الحالي. القروض الاميركية الموعودة مجمدة بانتظار تجاوب حكومة سوهارتو مع الشروط الدولية، وفي الاثناء تتهاوى قيمة الروبية الاندونيسية الى قاع بلا قرار. "من يقول لسوهارتو آن الأوان؟" تساءل معلق سياسي استرالي، بعدما انهار الدولار الاسترالي، من جراء الأزمة الى أقل من نصف جنيه، ولا يزال في حدود 63 سنتاً نسبة الى الدولار الاميركي. والواقع ان سوهارتو متحصن بالجيش. الضباط القياديون يعتبرونه أباً لهم، وهو بحنكته المعروفة وزع مسؤولياتهم في صورة تحبط الطموح بالسلطة وتكرس اقطاعات مناسبة من النفوذ والامتيازات. مع ذلك لا يستبعد المراقبون ان تؤدي الاصطدامات المرتقبة بين قوى الأمن والمتظاهرين ضد البطالة والعوز الى تدخل مباشر من الجيش. ولدى أي محاولة لحقن الدماء سيكون الباب مفتوحاً لانقلاب عسكري. من جهته، سوهارتو مرهق، ومحاط بأسرة وحاشية دفعهما الطمع الى الشطط والإثراء الفاحش. وفي الحادي عشر من آذار مارس المقبل متوقع ان يعاد انتخابه رئيساً للمرة الأخيرة، لكن المراقبين يرجحون حدوث شيء غير متوقع قبل الانتخابات.