في منتصف نيسان (إبريل) 2018، تناقل الإعلام العالمي خبراً مثيراً يفيد بأن دماغ الإنسان يستمر في تجديد نفسه حتى في العقد الثامن من العمر. وجاء ذلك في دراسة لفريق أميركي مختص يعمل في جامعة كاليفورنيا، أجرى بحوثاً على منطقة في الدماغ مسؤولة عن عمليات الذاكرة، وطُرُق استكشاف المخ لمعطيات البيئة المحيطة به، والتفاعلات العاطفية للإنسان. وخلص الفريق إلى أن تلك المنطقة تستمر في إنتاج خلايا جديدة، حتى عندما يكون الإنسان في الثمانين من العمر. وتندرج تلك الدراسة ضمن بحوث حديثة تركز على ظاهرة المرونة («بلاستيسيتي» Plasticity) في الدماغ، بمعنى قدرته على التأقلم والتجاوب والتجدد والتفاعل مع المتغيّرات، بما في ذلك العمر والمرض والتآكل وغيرها. وبعد مرور ما يزيد على قرن على أفكار علميّة مُغايرة، تتزايد الأدلة العلميّة على كون الأعصاب في دماغ الإنسان البالغ قادرة على إعادة تشكيل روابطها وتنظيمها. وتقليديّاً، دأبت النظريّات العلميّة على حصر تلك القدرة في مرحلتي الطفولة والمراهقة. وتذكّر دراسة فريق جامعة كاليفورنيا، ببحث مماثل أجرته مجموعة علميّة قادتها البروفسورة إيلي نديفي، أستاذة علم البيولوجيا العصبية في «معهد بيكوير للتربية والذاكرة». وبيّنت المجموعة أن نوعاً محدّداً من الأعصاب التي يتصل الاضطراب في عملها بظهور الاضطراب المعروف باسم ظاهرة التوحّد («أوتيزم سيندروم» Autism Syndrome)، يستطيع تغيير بنيته وتوصيلاتها. وتتركز الأعصاب المشار إليها في شريط من الأنسجة الدماغيّة لا تتجاوز سماكته أربع محارم ورقيّة، يقع عند الجانب الأعلى من الطبقة الثانية لقشرة الدماغ. ويرى العلماء في تلك القشرة مركزاً أساسياً للأعمال المتّصلة بأنواع التفكير والسلوك المُخطّط والذاكرة المعرفيّة عند الإنسان. المعرفة والأعصاب تحدّثت نديفي التي تتركز بحوثها في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» على دراسة التكامل بين تنظيم الدماغ بيولوجيّاً وقدراته معرفيّاً، عن تلك الدراسة. ووصفتها بأنها مثيرة تماماً لأنها تسلط الضوء على ليونة وصلات القشرة الدماغيّة والهندسة السائدة في الأقسام العليا من الدماغ التي تساهم في عمليات الإدراك والمعرفة. وأضافت:»يتمثّل الهدف من الدراسة في استخلاص أدلة على إعادة تشكيل بنية الدماغ على المدى الطويل، عند الإنسان البالغ. وبقول آخر، تتناول قدرة الدماغ على التغيّر كنوع من الاستجابة للمعطيات التي تحيط به، مهما تقدّم به الزمن»، وفق كلماتها. وفي دراسات سابقة، راقبت نديفي وزميلها بيتر تي سو، أستاذ الهندسة الحيوية في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، تغييرات ضخمة في طول الأقسام الأماميّة للدماغ. وركزا على الخلايا العصبية التي تشكّل معابر للرسائل الكهربائية التي تتنقل بين أعصاب الدماغ أثناء إنجاز أعماله المتنوّعة. ومن المثير أنهما توصلا إلى اكتشاف مفاده أن ذلك النمو ربما كان محصوراً بنوع محدد من أعصاب الدماغ. ونبّها إلى أن غالبية أعصاب القشرة الدماغيّة تشهد استقراراً وثباتاً، في الوقت الذي يؤمّن قسم صغير من الخلايا الروابط بين مختلف مناطق تلك القشرة. ولاحقاً، أثبتت نديفي نفسها أن المعطيات الوراثية الثابتة لا تحدد بشكل مسبق، قدرة ذلك القسم من الأعصاب على إعادة تشكيل الروابط. وكذلك أكّدت أن التوصيلات بين أعصاب الدماغ في قشرتها، هي التي تفرض عملية إعادة التشكيل. وعلّقت نديفي على ذلك بالقول: «تشير تلك الاكتشافات إلى أن موقع الخلايا هو الذي يحدّد مدى قدرتها على تشكيل الروابط ضمن دماغ الإنسان البالغ». وأضافت: «يتيح تحديد مظاهر ذلك الموقع فرصة لتحقيق النمو في أي دماغ مستقر! وربما جرى اعتماده يوماً ما لتحفيز نمو الخلايا والمناطق التي لا تستطيع عادة التكيّف مع ظروف البيئة المتغيرة». وكذلك رأت نديفي أن «معرفة قدرة الأعصاب على النمو في دماغ البالغ تتيح فرصة تعزيز تلك العملية واكتشاف الظروف التي تسمح للعلماء بالتدخّل فيها، خصوصاً بالنسبة إلى الأعصاب التي تُظهر القدرة على التجدّد في مراحل متقدمة من العمر»، وفق كلماتها أيضاً.