ثمة تقارب مشهود ينمو بين مصر وتركيا ولكن على أرضية مفارقة تاريخية تتبدى ملامحها بالنظر إلى الموقف السياسي الذي أحاط برأسي الحكومة في البلدين عند لقائهما في القاهرة الأسبوع الماضي. فثمة بلد هو تركيا يعيش واحدة من أكثر لحظات تاريخه الحديث صفاء في الرؤية ووضوحاً في الأهداف وثقة بالمستقبل، بعدما نجحت حكومته المعتدلة في الحفاظ على مواقعها لولاية ثالثة وبغالبية كبيرة تمكنها من اتخاذ القرارات المصيرية بحرية، اللهم باستثناء ما يتعلق بوضع دستور جديد للبلاد، يتطلب تشاوراً مع بعض القوى المعارضة لتأمين ثلثي المقاعد. وكذلك حققت تركيا الازدهار الاقتصادي، حيث واصل معدل النمو تزايده ليصل في النصف في النصف الأول من العام الحالي إلى 11 في المئة، وهو أعلى معدل نمو عالمي لم تبلغه قط سوى الصين، تجاوز معه نصيب الفرد من الدخل القومي حاجز العشرة آلاف دولار، وهو الحاجز الذي يفصل الدول المتقدمة عن الدول النامية، الأمر الذي يعكس في المجمل دخول تركيا قائمة الاقتصادات العشرين الأفضل والأقوى في العالم. والمهم أن هذا الواقع السياسي والاقتصادي يدور على أرضية ثقافية وإستراتيجية تركية بالغة الحيوية والثراء، لا يمكن تسميتها بأقل من إعادة اكتشاف للذات، داخلياً وخارجياً. فبعد مرور أكثر من قرن على سفور القومية الطورانية (1908)، واحتلالها موقع المركز في صياغة الهوية التركية، ونحو تسعة عقود من هيمنة الأتاتوركية التي أمعنت في التغريب وفى الاستعلاء على الشرق كانتماء حضاري، وعلى الإسلام كهوية تاريخية، نجد تركيا تتصالح مع تاريخها، فتبقى دولة قومية نعم، ولكن متصالحة مع جغرافيتها الثقافية والحضارية. لقد بدأت هذه العملية قبل عقود، ربما منذ الستينات، ولكنها أخذت زخمها مع حزب الرفاه ومفهومه عن النظام العادل في الثمانينات والتسعينات، فيما نضجت تماماً مع حزب العدالة والتنمية مطلع القرن الجديد. وما نقصده بالنضج هنا ليس فقط اكتمال التحول، ولكن أيضاً البدء بطرح آثاره، فما كان ثقافياً صار سياسياً، وما بدأ داخلياً صار خارجياً. يتعلق الثقافي والسياسي خصوصاً بالأكراد، حيث أخذ يصب في منهج تصالحي معهم، ويتبدى في محاولة دؤوبة لا تزال مستمرة لاستيعابهم على رغم الصعوبات التي لا يزال بعضها قائماً، في ما يعد تحولاً كبيراً في استراتيجية القمع الثقافي، نحو الاعتراف بالتعددية الثقافية في تركيا. ويتعلق الخارجي بالعالم العربي الذي أخذ يحتل موقع الصديق والشريك في التصور التركي الإستراتيجي، في موازاة التصور التوازني للهوية الحضارية، بعدما كان يحتل موقع العدو في التصور السابق، التغريبي، للهوية الحضارية. وفى المقابل تبدو مصر في واحدة من أكثر لحظات تاريخها الحديث ارتباكاً، وانقساماً، وشكاً على رغم كل الحيوية الكامنة فيها، والممكنات التي قد تتولد عنها، وذلك منذ قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير مطلع هذا العام. فالمعروف في أدب الثورة أن اليوم التالي لها هو الأصعب في سيرها وصيرورتها. ففي اليوم الأول، إذ تسعى الثورة، كل ثورة، إلى هدم النظام القديم، تنشأ تحالفات قصدية أو تلقائية سهلة في مواجهته بين كل القوى الرافضة له، والغاضبة عليه، والمتضررة منه. وهذا اليوم هو الذي شهد أعلى درجات التسامح بل التلاحم بين أبناء الوطن الواحد. أما اليوم الثاني فهو المخصص لبناء النظام الجديد، ذلك النظام القادر على تلبية ما عجز عنه سلفه، وتحقيق طموحات الثائرين. ولأن الثائرين فئات عدة، وطبقات شتى، وملل متباينة يقع الخلاف حول ذلك الجديد، حول شكله وجوهره، حول بنيته ومركزه، حول متونه وهوامشه. في ظل هذا الارتباك والانقسام وفي ظل الطابع الانتقالي الموقت للحكومة المصرية، لم يكن لدى الدكتور شرف الكثير مما يستطيع التعهد به أو تقديمه للسيد أردوغان ليس لأنه لا يريد، ولكن لأنه ليس مفوضاً حقيقياً، إذ لا يملك ولا يستطيع، فيما يملك أردوغان تفويضاً واسعاً يمكنه من تقديم التعهدات وتوقيع الاتفاقات، وكذلك من الوفاء بها. وعلى رغم ذلك فإن لقاء البلدين ممثلاً في رأسي السلطة فيهما يبقى أمراً مهماً، وتأسيس مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي بينهما، على أي مستوى، يبقى تطوراً لافتاً وإن ظلت حدوده وممكناته في إطار الوعد المستقبلي، الذي أظنه كبيراً ومفتوحاً على آفاق كبرى ومديات واسعة بمجرد أن تستقر حالة الثورة المصرية، وتتبلور ملامح النظام السياسي الجديد، وذلك لأكثر من دافع: الدافع الأول هو أن ديناميكية مصرية جديدة ستنمو في المستقبل القريب، وأن الحركة ستتصارع على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وفى مثل تلك الحالات فإن الصداقات تصير أكثر عمقاً، كما أن العداءات تصبح أكثر حدة، بفضل سرعة الإيقاع، وما تتضمنه من إلحاح، وما تكرسه من إدراكات سواء في حال العداء أو في حال الصداقة. ولأن خلفية العلاقة بين البلدين قوامها الصداقة، فالمؤكد هو أن دورة النشاط العادية أو المتصورة في ظل النظام المصري الجديد / الفعال، ستزيد هذه الصداقة عمقاً وتأكيداً. والدافع الثاني: أن الديناميكية المصرية الجديدة هذه، على الصعيدين السياسي والاقتصادي سوف يتبعها بالضرورة، كأمر منطقي، فورة إستراتيجية تدفع مصر إلى إعادة تأكيد دورها الإقليمي في مجالها الحيوي/ الحضاري. وفي هذه الحالة يفترض أن تميل مصر إلى نزعة استراتيجية استقلالية، وإن لم تكن بالضرورة معادية، إزاء العالم الغربي/ الولاياتالمتحدة، وأيضاً إزاء إسرائيل. وهنا يفترض أن تسعى لموازنة تلك النزعة الاستقلالية، بالتحرك نحو بناء تضامنات أو توافقات جديدة توازيها وتعادلها، لتوسع من أفق الحركة المصرية، وتحررها من أي احتمالات للعزلة. فإذا ما اعتبرنا الدائرة العربية في المجال الحيوي المصري هي من قبيل الواجب لا الاختيار، الفرض لا النافلة، فإن دائرة الاختيار المصري تتركز على تركيا فضلاً عن إيران. ولأسباب عدة ربما كانت تركيا خياراً مفضلاً على إيران لسببين: أولهما أن خلفية العلاقة بين البلدين تبدو جيدة في الحقبة الحديثة، إذ تخلو من أي حساسيات تذكر، قياساً بإيران مثلاً. وحتى عندما نشطت تركيا في الإقليم طوال السنوات الخمس الماضية، وذلك في سياق محاولة إعادة اكتشاف نفسها استراتيجياً، خصوصاً في الوساطة بين حركة حماس وبين إسرائيل، وأيضاً بين سورية وبين إسرائيل، لم يسبب ذلك النشاط قلقاً عميقاً لمصر وإن أثار غيرة مفهومة ومبررة، من قبل النخبة الحاكمة يمكن للمحلل التماسها، وإن بقيت غير معلنة أو مكشوفة. وثانيهما أن النظام التركي الحالي ديموقراطي ومعتدل، نجح في حل معضلة تمثيل المرجعية الإسلامية سياسياً في سياق ديموقراطي تعددي، من دون إقصاء له، وفى الوقت نفسه من دون السماح له باحتكار السلطة. وكذلك في ضبط دور الجيش في الحياة السياسية، بصفته حامي الدستور والشرعية الشعبية لا حاكماً مباشراً، ولا حتى معارضاً انقلابياً عليها ومن ثم يبدو فعالاً وديناميكياً، لا ينتظر حدوث انقلابات جذرية فيه، الأمر الذي يؤكد جدوى الاستثمار السياسي في تركيا بأي قدر أو ثقل، إذ تمثل تركيا لمصر شريكاً تلقائياً جاهزاً للحوار والشراكة، قادراً على الوفاء بوعوده والتزاماته المستقبلية. * كاتب مصري