تتمتع إسرائيل بتفوق عسكري واقتصادي وسياسي كبير على الدول العربية، مكنها هذا التفوق من فرض إرادتها على المجتمع الدولي، وبدعم مطلق من الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي منذ اغتصابها لأرض فلسطين، لذلك اعتقدت أن التفوق العسكري وحده، واستطاعتها هزيمة الجيوش العربية في أي حرب أو مواجهة عسكرية، سواء مع دولة واحدة أو مع دول عدة، يحميها ويفرض على خصومها العرب والفلسطينيين القبول بشروطها للسلام، ولذلك لم تنجح كل محاولات السلام والمفاوضات والمبادرات العربية والإقليمية والدولية مع إسرائيل، واستمرت في تعنتها وتقطيعها للأراضي الفلسطينية، وضربها بكل القرارات الدولية عرض الحائط. لكن السؤال المطروح هو هل القوة والتفوق العسكري وحدهما سيحميان إسرائيل؟ لذلك لا بد من استعراض المراحل التي مرت بها ما سمي محاولة التفاوض مع إسرائيل وهي: أولاً: فترة توقيع اتفاق «كامب دافيد» الذي امتد من عام 1979 وحتى عام 1990، وهذه المرحلة تميزت بخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي عسكرياً وسياسياً، وبدأت مرحلة ضعف العرب العسكري وكذلك السياسي، اعتقدت إسرائيل خلال هذه الفترة أنها بمنأى عن أي خطر عسكري يتهددها، في ما عدا بعض المنظمات الفلسطينية، التي قامت بالقضاء عليها وترحيلها من لبنان عام 1982، عندما اجتاحت لبنان ونصّبت بشير الجميل رئيساً قبل اغتياله واندلاع المقاومة التي واجهتها في لبنان وحتى انسحابها عام 2000. ثانياً: مؤتمر السلام الذي عقد في مدريد في إسبانيا في تشرين الثاني (يناير) 1991، وشمل مفاوضات سلام ثنائية بين إسرائيل وكل من سورية، لبنان، الأردن والفلسطينيين، إذ تمت خلاله محادثات ثنائية جرت بين أطراف النزاع العربي الإسرائيلي وهي لبنان وسورية والأردن والفلسطينيين من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، وبحضور عدد من الدول الأخرى العربية وغير العربية، وبرعاية أميركية كاملة. وكان عقد المؤتمر بمبادرة من الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في أعقاب حرب الخليج الثانية، وذلك برعاية كل من الولاياتالمتحدة و ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، من خلال مبدأ «الأرض مقابل السلام»، وقرارات مجلس الأمن «242 و338 و425»، إذ سار كل من الأردن والفلسطينيون في المفاوضات بشكل فردي، بينما التزمت سورية ولبنان بوحدة مساريهما التفاوضيين. لكن لم ينتج عن مؤتمر مدريد أي شيء يذكر، ما عدا أنه أسس لمبدأ المفاوضات الفردية بين الدول العربية وإسرائيل، وكان هو أو لقاء رسمي وعلى طاولة واحدة بين الإسرائيليين والعرب. ثالثاً: اتفاق أو معاهدة أوسلو، وهو اتفاق سلام وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة واشنطن الأميركية في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، وسمي الاتفاق نسبة إلى مدينة أوسلو النرويجية التي تمت فيها المحادثات السرّية التي تمت في عام 1991، إذ كانت تلك الاتفاقية أو المعاهدة هي إحدى النتائج الرئيسة لمؤتمر مدريد. وتعتبر اتفاقية أوسلو، التي تم توقيعها في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، أول اتفاقية رسمية مباشرة بين إسرائيل، ممثلة في وزير خارجيتها آنذاك شمعون بيريز، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة في أمين سر اللجنة التنفيذية محمود عباس آنذاك، ورئيس السلطة الفلسطينية حالياً. وعلى رغم أن التفاوض بشأن الاتفاقية تم في أوسلو، إلا أن التوقيع تم في واشنطن، بحضور الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، إذ نصت الاتفاقية على إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية (أصبحت تعرف الآن بالسلطة الوطنية الفلسطينية)، ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة انتقالية لإتمامها في أقرب وقت ممكن، بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية. كما نصت الاتفاقية، على أن هذه المفاوضات ستغطي القضايا المتبقية، بما فيها «القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين»، وهو ما جعل الكثير من المراقبين والمحللين يعتبرون أن الاتفاقية كانت مفخخة بالمشكلات منذ توقيعها وسيكون مآلها الفشل، خصوصاً ما يتعلق بمشكلة اللاجئين. رابعاً: قام الفلسطينيون بانتفاضتين، الأولى في عام 1987، والثانية في عام 2000، هزتا الكيان الإسرائيلي، وكانت نقطة تحول بالنسبة للفلسطينيين بالتحول نحو المواجهة السلمية مع العدو الصهيوني، وهو ما أعطاها الكثير من التعاطف من وسائل الإعلام الدولية والرأي العام الدولي. أما في عام 2011 فقد حدثت مسيرات عدة قامت بها الجماهير الفلسطينية والعربية في معظم الدول العربية مؤيدة للحق الفلسطيني ومواكبة لتطورات «الربيع العربي». خامساً: كان الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 نقطة تحول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، إذ للمرة الأولى تنسحب إسرائيل من أراضٍ احتلتها من دون شروط، بل تركت من تعاونوا معها لمصيرهم وانسحبت من جنوب لبنان بشكل مهين، وبرز حزب الله كقوة مقاومة في لبنان، بعد خروج المنظمات الفلسطينية منه، وانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. سادساً: الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي تمت في عام 2006 وحصلت حركة حماس على الغالبية لتشكيل الحكومة، وكانت أول انتخابات حرة ونزيهة بين الفلسطينيين، ولكن لم تعترف إسرائيل بحكومة حماس، ولا الولاياتالمتحدة الأميركية والدول الغربية الأخرى، ما أوجد انشقاقاً بين الحكومة في غزة والرئاسة في رام الله. سابعاً: كانت حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل نقطة تحول في الصراع العربي الإسرائيلي، إذ لم تستطع إسرائيل، وللمرة الأولى في تاريخها العسكري، أن تحقق أهدافها، على رغم أنها دمرت البنية التحتية اللبنانية، وارتفاع عدد القتلى من المدنيين، ولكنها عجزت عن القضاء على مليشيا عسكرية. ثامناً: ثورات الربيع العربي والهجوم على السفارة الإسرائيلية في القاهرة، جعل إسرائيل تفكر بمصير كل الاتفاقات والمعاهدات التي عقدتها مع بعض الدول العربية. لقد تفوقت إسرائيل عسكرياً وامتلكت السلاح النووي، ولكنها لم تشعر بالأمان في أي يوم، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، ولذلك الوقت ليس من صالحها، فما تحصل عليه اليوم لا تستطيع أن تحصل عليه غداً، والتفوق العسكري لا يمنحها الأمان، وحده السلام القائم على العدل والقانون وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه الكامل هو من يمنح إسرائيل السلام. كما أن الولاياتالمتحدة الأميركية ستخسر صورتها في العالمين العربي والإسلامي إذا استمرت بوقوفها إلى جانب إسرائيل واستخدمت حق النقض في مشروع الدولة الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي. * أكاديمي سعودي. [email protected]