الأسرة والمجتمع والدولة أنظمة تتشابه في قوانينها الاجتماعية وتأثيرها على سلوك الفرد، فتأثير الضغوط الأسرية وما تخلفه من اضطرابات نفسية تماثل تأثير الضغوط القمعية السياسية. سياسة الحكم في بعض الدول العربية قائمة على القمع والإذلال لحد أن أحد الليبيين يذكر لي أن الخوف بلغ منا مبلغه، حتى أننا لا نستطيع أن نبحلق في سور العزيزية الخاص بالرئيس معمر، ويذكر أحد السوريين أن الرعب بلغ منتهاه لدرجة أن بُث في عقولنا أن مجرد التلويح باليد نحو القصر الجمهوري يعتبر إجراماً شنيعاً يستحق عقوبة الإعدام. هكذا وصلت الأنظمة القمعية وأوصلت لشعوبها مخاوف وكآبة وزرعت في نفوسهم أوهام سلطة وجود أجهزة الاستخبارات حتى في غرف نومهم. الشعوب المسكينة والمغلوبة على أمرها لا تمشي فقط وفق ما تمليه عليه أنظمة الدولة، بل إنها مع الوقت تمرض وتمرض ويتأصل لديها مستوى الخوف والمذلة وتصبح حياتهم فاقدة لمعناها الحقيقي. هذا هو الاضطراب النفسي السياسي، فحينما تمارس الأنظمة القمعية للدولة مستوى شديداً من الإذلال لشعبها، يخرج اضطراب ما يسمى بالاكتئاب السياسي، وحينما تمارس الدولة إرعاب شعبها، يخرج اضطراب القلق السياسي، وحينما تخوف الدولة شعبها في كل شيء، تخرج الضلالات والفصام السياسي الذي من خصائصه أن الفرد يسرف في التشكيك حتى يقتنع أن كل ما تقع عليه عيناه يمثل تجسساً من مخابرات الدولة. ويعلم الأطباء النفسانيون أن هناك مئات وربما آلاف من الاضطرابات النفسية سببها راجع لأسباب سياسية، خصوصاً في الأنظمة القمعية الجائرة. البوعزيزي هو أول عربي تفاعل مع الكبت السياسي، وعبّر عملياً أن الحياة ليس لها معنى في ظل الكبت السياسي، فعمد على نحر نفسه بنفسه، ولاقى تعبيره ذلك استحسان الآخرين المكبوتين فخرجوا بصدورهم العارية ليلقوا مصير ما لقاه البوعزيزي، لكن الأمر أشكل على قوى الأمن أن تبيد شعباً بأكمله، ومن هنا كانت سقطة النظام. وآذن عمل البوعزيزي حينما عبّر عن مشاعر شعب مقهور باندلاع ثورات هنا وهناك، كانت بداية حقبة جديدة من تاريخ الأمة العربية، وعرف الغرب بُعد ما قام به البوعزيزي من تأثير على العالم المكبوت، فوضع ميداناً في فرنسا سمي باسمه، ومجّد الرئيس الأميركي البوعزيزي في أكثر من مناسبة. وهكذا عندما رفع الشعب السوري شعار الموت ولا المذلة كان يعي تماماً هذه المعادلة، وأن الحياة بمشاعر المذلة المهانة ليست بحياة، وأن الموت والشهادة أسعد بكثير من العيش في حياة كلها ضنك وضيق وخوف، وبالفعل فالذين دخلوا في فخ الاكتئاب على رغم أنوفهم فضلوا الانتحار على أن يعيشوا بمتلازمة الكآبة. هذا الخيار الذي سلكه الشعب السوري (الموت ولا المذلة) هو خيار منطقي له أرضية فطرية، فإما أن نموت أو نحيا مكتئبين قلقين، ويحسب النظام حينما اختار أسلوب القمع والإذلال أن الشعب سيتراجع ولكن الشعب لن يتراجع لأنه إن تراجع فإنه يرجع لمربع المذلة والضيق، ومهما يكن فإن حياة الشعوب أطول من حياة حاكميها. ويمثل ربيع الثورات العربية متنفساً فريداً لشم رائحة الحرية والانفكاك من قيود المخاوف والمهانة، فبعدما ذاقت بعض شعوب المنطقة طعم الحرية فلن ترضى عنها بأي بديل مهما كان، واحدة من المصريات في اليوم نفسه الذي نجحت فيه الثورة عبّرت عن فرحها في شوارع القاهرة وصرخت بأعلى صوتها وكأنها تفرغ شحنة من كآبة داخلها، قالت: «ما فيه خوف تاني، ما فيه صمت تاني، أحس أني اتولدت من جيد، خلاص للخوف، طعم الحرية». وأحدهم قال وعمره 62 عاماً: «لم أشعر بالفرح في حياتي كما شعرت به الآن، أحسست وكأن جاثماً على صدري قد انفك الآن»، كذلك أحد التونسيين بعد نجاح الثورة التونسية كان يمشي بتلقائية في الشوارع يخاطب نفسه بصوت عالٍ: «يحيا شعب تونس العظيم، الحرية للتوانسة، تنفسنا الحرية، ما تخافوا من حد، البقاء للشعب». وفي هذا يؤكد المختصون في علم النفس السياسي على ظاهرة انعكاس النظام السياسي على الخصائص النفسية للشعوب، وأن الشعوب التي تعيش تحت نظام سياسي عادل حر تثق بنفسها وتصدق في انتمائها لوطنها، أما التي تعيش تحت نظام سياسي دكتاتوري قمعي فإنها تصبح مخنوقة خائفة لا تخلص في خدمة وطنها. ولذا يقال: عندما ترى شعباً مزدهراً سعيداً فأعلم أن خلفه نظاماً سياسياً عادلاً حراً، وعندما ترى شعباً مكسوراً مذلولاً فأعلم أن نظاماً قمعياً يقف خلفه. [email protected]