ربما تكون حلقة «تحت المجهر» عن يونانيي مصر ودورهم الحلقة الأجمل والأغنى التي قدمها برنامج «تحت المجهر» في قناة «الجزيرة». فالحلقة حفلت بالتفاصيل والجزئيات التي روت سيرة الجالية اليونانية منذ بدايات وصول طلائعها الأولى إلى مصر، لزراعة القطن وتسويقه، ثم المرحلة الأهم التي تتصل بآلاف اليونانيين الذين زحفوا من الجزر اليونانية تلبية لرغبة مهندس قناة السويس الفرنسي فرديناند ديليسبس. لقد حظيت حلقة «تحت المجهر» هذه، بسردياتها الوثائقية أهمية بالغة بالنظر إلى ما ظلّ يحيط بالوجود اليوناني في مصر من التباسات غير حقيقية، فأماطت اللثام عن حقائق كثيرة غفل عنها المؤرخون تحت ضغط السياسة. خصوصاً في مرحلة ما بعد الثالث والعشرين من تموز (يوليو) 1952، وصولاً إلى عام 1966 الذي شهد نهايات رحلة الخروج من مصر إلى المنافي البعيدة. بين تلك المعلومات غير المعروفة، الدور الذي لعبته الجالية اليونانية في تأسيس الصناعة المصرية إذ تشير الوثائق المصوّرة إلى أنها بدأت جدياً مع إقامة مصانع السجائر التي عرفت كطريقة للتدخين لأول مرة في سورية على أيدي جنود إبراهيم باشا، ثم نقلها اليونانيون إلى الإسكندرية. في الحلقة إضاءات على دور اليونانيين في الحركة الفنية المصرية وخصوصاً إقامة «مسرح زيزينيا» الشهير في الإسكندرية، ثم في بدايات صناعة السينما المصرية. مع ذلك لا بد من القول إن أهم ما كشفته الوثائق المصورة هو ذلك الجانب السياسي الذي يتعلق بمواقف اليونانيين وأدوارهم في الدفاع عن مصر خلال العدوان الثلاثي على مصر1956، حيث تقول الوثائق إن من بين إحدى عشرة مجموعة تألفت منها المقاومة الشعبية في بورسعيد كانت هناك مجموعة تألفت من شباب يونانيين وجدوا أنفسهم مندفعين للدفاع عن «وطنهم الثاني» كما وصفوا مصر يومها. في هذه الحلقة من «تحت المجهر»، في الوقت نفسه، إضاءة جميلة لحياة مدينة الإسكندرية وصورتها كمدينة كوزموبوليتية، زخرت بألوان وثقافات شعوب متوسطية عدة عاشت على أرضها، وجعلتها حتى أربعينات القرن الماضي واحدة من أجمل وأهم مدن البحر الأبيض المتوسط، وأشدها جذباً للسياح والزائرين. لقد أتت بالتأكيد حلقة بالغة الجمال، زاخرة بالمعلومات، أعادتنا إلى الزمن الجميل، وأضاءت لنا تاريخ جالية عملت واجتهدت وأحبّت وطنها الجديد، لكن السياسة أجبرتها على تركه ليظل الحنين يعصف بأفرادها ويشدهم في اتجاه زيارة مصرمجدداً.