من يزور دمشق اليوم عليه أن يراها بعينين مختلفتين، العيون القديمة لن تستطيع أن تجاري المدينة الثائرة على عقود من تاريخها. كلّ شي مختلف: الشوارع، اللافتات، الأحاديث، نظرات الناس... حتى الهواء تختلجه نسمات جديدة. العاصمة السورية، التي تختصر البلاد بتنوّعها وتناقضاتها، لم تستطع أن تحبس الوجع السوري، وبعد شهور من الحرقة والخجل من عجزها، غصّت أمّ السّوريين. «من أين أنت؟»، سؤال لطالما اشتهر به لبنان، حيث «قل لي من أين أنت أقل لك من أنت». هذا السؤال لم يغب عن التفكير أو اللسان السوري سابقاً، لكنّه يتقدم بوضوح مؤخراً. كل حديث سياسي يبدأ بهذا السؤال، وكلّ حديث الآن يبدأ أو ينتهي بالسياسة، مكوّنات الشعب السّوري يتعرف بعضها اليوم إلى بعض، وتتعرف إلى نفسها أيضاً. للسبب ذاته على الأرجح، هناك حرص من قِبَل كثيرين على إظهار لهجاتهم بوضوح، فبعضها - وخاصّة لدى المغالي في إظهارها- يوحي فوراً بانتماء سياسيّ معيّن، والبعض أيضاً يتصنّع، متمثلاً اللهجة التي تماهت - لسببٍ ما - مع اللسان السلطويّ - الأمنيّ تحديداً. الرموز الدينية امتدت إلى الأيدي والأعناق، وفي التاكسي أيقونات تشير إليك ماذا يجب أن تتكلّم أو تمسك، بعضها يقول لك فوراً «حذارِ والخطأ»، وبعضها الآخر يقول «خلّيها للرحمن». صور في كلّ مكان... على زجاج السيّارات، اللافتات، لوحات الإعلان، واجهات المؤسسات وبعض المحلاّت التجاريّة... مئات الأعين ترقبك من كلّ الاتجاهات. تلمع في الذاكرة صورة «الأخ الأكبر» (القائد) التي كانت تطارد «ونستون سميث» في رواية «1984» البديعة لجورج أورويل «الديستوبيا التوتاليتارية الشهيرة تعمل أعمالها في الذاكرة». تحضر المشاهد «الأورويليّة» أنّى وقعت العين، وترتسم ابتسامة على الوجه حين تتذكّر شعارات الحزب القائد في الرواية (وللمصادفة هي ثلاثة أيضاً: «الحرب هي السلام»، «الحريّة هي العبودية»، و«الجهل هو القوة»)... الممانعة والتأليه يشرحان الشّعارين الأوّلين. الجهل هو القوّة؟! نعم، التجهيل – القمعيّ قبل الإراديّ - هو سرّ السكوت عن سفاهة الشعارين السابقين. طوال العشر سنوات، والأربعين سنة الفائتة عموماً، كانت عبارات منمّقة سمجة – سجّلت ليزا ويدين جزءاً كبيراً منها في كتاب «السّيطرة الغامضة» - تغطي عجز العموم السوري وخوفه. هذان الأخيران لم يُجهَز عليهما حتى الآن. بعد أكثر من عشر أعوام، فات «ليزا» الكثير من إبداعات زماننا. انتقلنا من أسطورة «الرئيس والحاشية» التي وسمت العقد الأخير إلى عبارات جديدة اليوم. «ضِعنا» هي إجابة سائق تاكسي - يتضح لاحقاً إن أصحاب هذا المصطلح معارضون - إلى حين يتيقّن موقفك جيّداً. بين «الجزيرة» و «السورية» يضيع الواحد. لهذه العبارة جدليّتها الحاضرة فوراً على لسان أصحابها، فلكلّ شهيد نظير، ولكلّ فيديو نظير، ولكلّ كذبة إعلامية نظير... الحرب التلفزيونية تجاري تلك القائمة على الأرض، توازيها في الإلغاء تحديداً. كل شي «مفبرك»، حتى يصل الأمر ببعض أنصار السلطة - وكلّهم مدافعون شرسون عن القذافي طبعاً - إلى حد تكذيب وصول مناهضي القذافي إلى الساحة الخضراء. «إيّاك أن تصدّقهم، كل هذا فبركة»! حالة من الإنكار المستطير، كل شيء مفبرك، وكل من ينقاد وراءه مفبرك بالنتيجة، ولا وجود إلا لحقيقة واحدة: «خلصت». في المجالس «الوطنية» هناك من يختلس النظر على رأس كل ساعة إلى إحدى القنوات «المتآمرة»، «لنر إلى أين يريدون أن يصلوا» بحسب بعضهم، ومنهم من يريد أن «يعرف عدوّه»... قليلاً ما يعير الآخرون – المعارضون - اهتماماً ل «قناتهم الوطنية». جميعهم مشغولون بمشاهدة «التجمعات الصغيرة التي انفضّت من تلقاء نفسها» - عبارة التلفزيون السوري -. وعلى محطّات أخرى، تراجعت أغاني «فيروز» الصّباحية من الإذاعات، وتقدّمت تلك التي تتغنى بالأمجاد، بالجيش، والقائد... وبأن «سورية بخير»، وكأن شيئاً لم يكن. طبول وزمور تحاول أن تغطي آهات البلاد. غاب عن قارعي هذه الطبول أنّ آهات المخاض هذه لن يغطّيها حتى الخروج ب «أكبر طبل في العالم». كيف تكون سوريا بخير عندما، أقلّه، نسمع يوميّاً عويل أمهات وعائلات أفراد الجيش؟ الهستيريا تتجلى أيضاً بادعاءات عنترية بإخضاع تركيا، أميركا، أوروبا، الخليج... والعالم كلّه. لا غرابة في ذلك عندما نكون في أيّام ابتلاع القارّات. هاجس هؤلاء إعادة كلّ شيء إلى القمقم. الضِّيق واضح على الأوجه، وعلى اللسان يتفجر رغباتٍ فاشيّةً، ك «سحق المتظاهرين» و «هدم الأحياء». «كلاب»، «سحق»، «خونة»، «شعب غبي» - وغالباً ما يستبدل الغباء بالتبهيم - وغيرها من الكلمات الفاشية، هي اليوم تتردد على ألسن من يمكنهم الحديث السياسي بصوت عال. الأهم: «حريّة ماذا؟ هل يريد أن ينام معها في الشارع يعني؟»، يقول سائق التاكسي. هذه واحدة من عبارات كثيرة تعيّب المتظاهرين جنسيّاً. شيء ما يؤكّد نظرية فيلهلم رايخ بأنّ أيديولوجيا الجمهور الفاشي وسلوكه لهما جذور في قمع الحريّة الجنسيّة. على هذا الأساس، ليس غريباً إذاً استهداف المعارضين والمعارضات السوريين بأعراضهم من قبل إعلام السلطة وجمهورها، وتحديداً النساء، فالخارجة على السلطة خارجة على الشرف. أيّها المعارض، كيف تنتهك حرمة النظام؟! في الأحياء «المُنعَم عليها» تسمع من أصدقائك من يقول: «في شوية تظاهرات، بس بالميدان، مو جوّات الشام». للتظاهرات اليوم أن تقصّ علينا كيف أخرجت الميدان إلى خارج دمشق... في «باب توما» القريبة، لا يصل صوت «الميادنة» إلا لمسامع قلّة... لكنّ من يقصّ علينا هذه الحكاية؟ بعد خمسين عاماً، هل تحكي لنا القيادة العلمانية للدولة و «المجتمع» كيف سُوّرت الأحياء والمناطق - والنفوس أيضاً - بالخوف، بدل أن تهدم الأسوار الموجودة! أحصنة طروادة عاجزة عن الدخول، فحرّاس الخوف ساهرون... السلام والأوسمة لكلّ «الخونة» الذين يحاولون فتح باب توما- وكلّ أبواب البلاد- من الداخل. النائمة المكبّلة بالسّلاسل، التي جعّدت وجهها بيوت البؤس العشوائية، تفتح عينيها، المدينة تشبّ بعد أن شاخت، ومن تجاعيدها يُنفَخ الصّوْر، و كما بدأت تتحرر من السّلاسل العسكرية، ها هي تنفض عنها وَسَنَ ال «نيو» ميركانتيلية وتستعيد الرّوح... ما قد يسوؤك منها جميل! هي دمشق، حتى بعلّة تجاريّتها، تطمئنك... تقول لك بأنّها ستبقى المدينة التي لن ترضى الفوضى، ولن تستسيغ الانغلاق! من هؤلاء؟ من أين خرجوا؟ ورشات عمل سياسي، شباب بأسماء مستعارة –أم هذه هي أسماؤهم الحقيقية وتلك كانت المستعارة - ومعارضون لا يرون الشّمس، لا يعرفون ما اللّيل وما النهار... في إحدى غرفهم، تتأكّد أنّ «حاجّ» الانتفاضة هو أحد شبابها – وحكيمهم - ومن أمله الواثق تتيقّن أنّها فعلاً «خلصت». شباب بعيون حالمة، قلوب تختبر اليوم شجاعتها، وأرجل تصارع للخروج من الدماء المتحرّكة. يجمعك بهم احساس غريب بالتضامن مع هؤلاء، يكفي وجودهم في المكان عينه كي تتعرف إليهم. لا داعي لتعرف أسماءهم... من وجوههم، قبل كلماتهم، تتعرف إليهم. دمشق قامت، حقّاً قامت! التي تراءت لناظريها طويلاً مدينة من العشب المسحوق تسفر اليوم عن أزهارها، وبالأخصّ عن زهراتها. كلّ حرّ في دمشق الآن هو عاشقٌ لمئات، هو دون جيوفاني، فموزارت جالس هناك، يعزف للحرية في «جنينة السّبكي». اليوم بدأ ربيعكِ يا دمشق، ويا أزهار دمشق هذه الدماء ليست سوى ندى انعتاقك، قبّليها، ودّعيها، ثمّ انفضيها عنك... إنّي أشتمّ عبير الياسمين! * كاتب سوري