يخطئ من يظن أن الديكتاتورية المقترنة بسوء الأوضاع المعيشية هي الباعث الأساسي لروح الثورات العربية، فلطالما حُكم العرب بالسيف ثم الحديد والنار على امتداد التاريخ، وهو ما تشهد به كتب التاريخ العربي الحافلة بحكايات الإجرام المتفرد والمجازر الجماعية وأغرب وسائل التعذيب في هذا الكوكب. المفكر والمؤرخ «هادي العلوي» أحد من تفرغوا لجمع ورصد أبشع أنواع التعذيب التي مورست بحق العرب والمسلمين على امتداد 14قرناً، ليخرج بمؤلفه الأثير «تاريخ التعذيب في الإسلام»، ويأتي تحديد الفترة هنا مبرراً من العلوي الذي يرى أن العرب لم يتعودوا الخضوع لسلطة لاسيما سلطة مستبدة فيما يسمى بالعصر الجاهلي أو ما قبل الإسلام، ولذلك فإن أشرس جرائم الديكتاتورية وأبشع طرقها في تنفيذ هذه الجرائم تمت في العصور الإسلامية المختلفة وفي كل بقاع العالم الإسلامي تقريباً، والغريب أن أشهر تلك الممارسات الديكتاتورية كانت ترتكب في سبيل جباية الزكاة والجزية من الناس، يلي ذلك التعذيب لأسباب سياسية الذي من أساليبه «سلخ الجلود»، ففي رواية لابن الأثير أن رجلاً يدعى محمد بن عبادة أسر في أيام المعتضد بالله فسلخ جلده كما تسلخ الشاه. وفي مثال صارخ على من جنت عليهم «آراؤهم» التي تعتبر اليوم من أبسط مبادئ حرية التعبير يروي التاريخ أن المعز الفاطمي قبض على الفقيه الدمشقي أبي بكر النابلسي بعد أن بلغه قوله: «لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة (الفاطميين) وواحداً في الروم» فاعترف بقوله، وكانت عقوبته أن تم سلخ جلده وحشي تبناً ثم صلب بعد ذلك، وهذا مجرد مثال بسيط لفرد واحد من ملايين العرب الذي ذاقوا صنوف التعذيب والتنكيل التي منها ما لا يكاد يتخيله عقل كنفخ الناس بالنمل، وإحراق المدن على أهلها مع اجبارهم على قذف أنفسهم في النار، وغير ذلك وأنصح بالرجوع لمؤلف العلوي للاطلاع على مدى الوحشية التي يمكن أن يصل إليها رجال السلطة بأمر من الديكتاتور الحاكم بأمره وبجلاديه أيضاً. وطبعاً لم يخل التاريخ من ثورات هنا وهناك معظمها كرست لديكتاتوريات جديدة أسوأ من سابقتها. حسناً: إن لم تكن الديكتاتورية المقترنة بسوء الأوضاع المعيشية كما أشرت في بداية هذا المقال باعثاً أساسياً للثورات العربية، فكيف يمكن تفسير ظاهرة الربيع العربي؟ برأيي أن الشعوب الثائرة اليوم التي تنادي بالعدالة الاجتماعية والحرية وتدفع دماء أبنائها ضريبة لذلك لم تكن لتصل إلى هذه المرحلة، لولا أنها امتلكت نزعة يمكن تسميتها ب«نزعة الانتقام من التاريخ» نمت في ضمير العربي وروحه وعقله، وكان بحاجة لتوجيهها في أي اتجاه فأصبحت باعثاً للثورة «الانتقامية» من الديكتاتور، وهذا تثبته الأحداث والشواهد ففي مصر وتونس رجع الناس إلى بيوتهم وانهوا الاعتصامات والعصيان بمجرد رحيل رأس السلطة الذي هو رحيل رمزي، حيث ما زالت الأنظمة قائمة، أي وبشكل آخر لم تسقط الأنظمة وإنما أشبعت الشعوب رغبتها الانتقامية بعملية رمزية هي «قتل الديكتاتور في ضمائر الناس»، كما أن تحرك الشعوب دفعة واحدة عقب الثورة التونسية لا يمكن تفسيره إلا بأن تلك الثورة أحيت تلك النزعة التاريخية النائمة في ضمائرهم، وكما هو معروف فإن نزعة الانتقام من التاريخ لا تصنع مستقبلاً أفضل بل تنتهي بعملية الانتقام، لتعود الدورة من جديد ويخلق ديكتاتور آخر ونظام قمعي أسوأ وهكذا، وللجميع أن يعودوا بالتاريخ إلى الوراء قليلاً ليقارنوا بين صورة الديكتاتور المخلوع اليوم وصورته عندما استلم السلطة كمنقذ للشعب وبطل عصره، ليفهموا أن ما يبني الحضارات ويغير وجه التاريخ هو تجاوز «الرمزية» والتعامل مع الواقع بشموليته وإلا سيضطر أحفادهم للثورة، وأحفاد أحفادهم كذلك في دوامة من «نزعات الانتقام» المتجددة عبر التاريخ. [email protected]