لم تسلم إسرائيل من تداعيات الثورات الشعبية التي اندلعت في كثير من البلدان العربية عليها، فهذه الثورات غيّرت البيئتين السياسية والأمنية المحيطتين بها، لكن الأكثر إقلاقاً بالنسبة لها أن هذه الثورات أدخلت مجتمعات هذه البلدان في معادلات الحرب والسلام، وفي موازين القوى، في الصراع الدائر في هذه المنطقة. معلوم أن هذا العامل، والمقصود به حضور المجتمعات كفاعل أساسي على مسرح الأحداث في البلدان العربية، لم يكن وارداً البتّة، إذ ظلّ خارج حسابات السياسة والصراعات الشرق أوسطية، بحكم تهميش هذه المجتمعات وتعطيل دورها، من قبل الأنظمة التسلّطية السائدة. ولا شكّ في أن هذا كان وضعاً مثاليا لإسرائيل، طوال العقود الستة الماضية، إذ إنه أخرج قوة المجتمعات من دائرة موازين القوى، وأتاح لها ابتزاز الأنظمة والاستفراد بها والتغطرس عليها، فضلاً عن أنه جبي لها تعاطف العالم بادعاء فرادتها كدولة ديموقراطية في المنطقة. أيضاً، وبالنسبة لإسرائيل، ولنفكّر في هذا الأمر مليّاً، فإن تغيّر الأنظمة لا يعني بالضرورة حصول تغيّر جذري في السياسات، ولا في موازين القوى تحديداً، لغير مصلحتها، لا سيما في عالم بات يزداد انكشافاً وانتظاماً. لذا، فإن صعود دور المجتمعات هو ما يبدو وحده، من منظورها، بمثابة العامل الجديد الذي من شأنه أن يغيّر من معادلات الصراع معها ويكسبه معاني جديدة لا تخدمها. ثمة علامات كثيرة واعدة ظهرت في هذا المجال، ضمنها تظاهرات الشباب الفلسطينيين على الحدود مع إسرائيل (خصوصاً في لبنان وسورية)، والتي حصلت بمناسبتي النكبة والنكسة (في 15 أيار/مايو، و5 حزيران/يونيو). ففي المناسبتين المذكورتين، وبصرف النظر عن بعض محاولات التوظيف السياسي، جرى تنظيم تظاهرات شبابية على الحدود، تم الدعوة إليها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، اتّسمت بالسلمية التامة، وبالجرأة غير العادية، في محاولة من الشباب الفلسطينيين لمحاكاة الثورات الشبابية العربية. وقد اتّسم ردّ فعل إسرائيل في هاتين الحالتين بكثير من الحيرة والعنجهية والإنكار، في الوقت ذاته، إذ وجدت إسرائيل فيه نفسها فجأة وفي شكل غير مسبوق وجهاً لوجه أمام حراك شعبي سلمي بكل معنى الكلمة، من دون مقاومة مسلحة. السؤال الآن: ماذا ستفعل إسرائيل في حال تم اعتماد هذه الحالة، وتحويلها إلى نوع من ثقافة سياسية تفيد بخروج عشرات وربما مئات من الألوف إلى الحدود في تظاهرة شعبية وسلمية لعبور الحدود؟ أو ماذا ستفعل إذا تمت إزاحة «الجيوش العربية» من المشهد (وهي أصلاً كانت مزاحة من الناحية الفعلية) لمصلحة نوع من مقاومة شعبية سلمية تتوخّى استعادة الحقوق ولو بالمعايير التي تم التعبير عنها في قرارات الأممالمتحدة (مجلس الأمن والجمعية العمومية)؟ ثم ماذا ستقول إسرائيل في حال دعّمت هذه الحراكات بشعارات تتناسب مع القيم الإنسانية العالمية، أي قيم الحرية والعدالة والكرامة، من نوع نريد العيش في دولة واحدة ديموقراطية ومدنية أي كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات؟ معلوم أن الساحة الفلسطينية لم تكن بعيدة عن هكذا مشهد، على رغم كل الحديث فيها عن المقاومة المسلحة (التي انحسرت فعليا وتآكلت إمكانياتها عمليا)، إذ كانت ألفته إبّان الانتفاضة الأولى (1987 - 1993)؛ على رغم قصورها من ناحية الثقافة السياسية (باعتمادها الخيار الجغرافي فقط) وعلى رغم عدم اكتمال مآلاتها السياسية (بعقد اتفاق أوسلو). على صعيد آخر، فقد قدم المشهد المصري بدوره صورة عن تلك الحراكات الشعبية، أيضاً، ذلك أن مصرع عدد من الجنود المصريين برصاص الجيش الإسرائيلي لم يمرّ بسهولة، إذ شهدت القاهرة تظاهرات عارمة أمام سفارة إسرائيل (وهي التي كانت منسية طوال الأشهر الماضية)، وتم إنزال علمها عن سارية البناية التي تشغل مقراً فيها، ما فتح الحديث عن إمكانية مراجعة اتفاقية كامب ديفيد. ووفق تسريبات إسرائيلية فإن الأمر وصل حد قيام المجلس العسكري الأعلى في مصر (السلطة الحالية) بتحذير إسرائيل من مغبّة أي اعتداء منفلت على قطاع غزة (في الشكل الذي كان يتم عليه في العهد السابق)، وأن أي خطوة في هذا الاتجاه قد تنهي معاهدة السلام مع مصر. («معاريف» 23/8). ويكفي أن نذكر هنا أن قادة إسرائيل برّروا سكوتهم عن شنّ حرب شاملة على غزة (رداً على عملية إيلات) بالخشية من ازدياد عزلة إسرائيل على الصعيد الدولي ومن استفحال الأزمة مع مصر... والوضع الحساس والمشتغل في الشرق الأوسط. («هآرتس» 23/8). ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن معادلات الصراع مع إسرائيل لم تعد محكومة بأمزجة الحكام، وإنما باتت في مجال الرأي العام، الذي بات له رأيه في مداخلات وتفاعلات الصراع العربي - الإسرائيلي. والأمر الآخر أن مصر الجديدة، المحمولة على رياح ثورتها الشعبية، لن تحتمل عدوانية إسرائيل، التي تحطّ في الواقع من قدر مصر وكرامتها ومكانتها في إقليمها (الذي يشمل فلسطين والشرق الأوسط). ثمة عامل آخر ينبغي الحديث عنه هنا، أيضاً. ذلك أن المجتمع الإسرائيلي ذاته لم يكن بمنأى تماماً عن عدوى الثورات الشعبية العربية، على عكس ما روّج قادته بدعوى أن إسرائيل دولة ديموقراطية. هكذا شهدت إسرائيل تظاهرات عارمة فاجأت قادتها أنفسهم، إن من حيث حجمها، وشمولها فئات موالية للأحزاب المنخرطة في الائتلاف الحكومي، أو من حيث الشعارات التي طرحتها، والتي شملت إصلاح النظام الاقتصادي، ووضع نظام يكفل عدالة أكثر، وتوزيع موارد أفضل، للإسرائيليين. والجديد، والمفاجئ في هذه الشعارات أنها لم تبالِ تماما بالأطروحات السياسية للحكومة الإسرائيلية المتعلقة بدعم الاستيطان، وبتقديم موازنات أكثر للأمن، وهذه إشارات سياسية ذات مغزى، لجهة تراجع الثقة بسياسات الحكومة، وتراجع الاهتمام بأولوية الاستيطان وبجدوى الاحتلال. وكان لافتاً ما كتبه جدعون ليفي الذي قال: «مصر هنا. هل كنتم تصدقون؟ الصور... أشبهت أكثر ليالي «التحرير» ضجيجاً. ولم تعد المقارنة الآن بثورة القاهرة هي على سبيل المبالغة أو هوى القلب... اجتمع الجمهور وصرخ: الشعب يريد عدالة اجتماعية». («هآرتس» 8/8) وقال ناحوم برنياع «عرفت إسرائيل تظاهرات كثيرة لكن تظاهرة أول من أمس كانت، من جوانب كثيرة، بلا مثيل في السابق... هذه أول تظاهرة في إسرائيل لم تتحدث عن الماضي بل عن المستقبل». («يديعوت أحرونوت»، 8/8). ما يثير قلق إسرائيل أكثر أن هذه التحولات فيها ومن حولها تحدث في وقت تعاني من مخاطر وجودية حقيقية، تتمثل بتآكل محيطها الإقليمي (فهي خسرت إيران ثم تركيا وها هي مصر أيضاً)، كما تتمثل بمحاولات نزع الشرعية عنها على الصعيد الدولي، من الناحيتين السياسية والأخلاقية، بعد أن نزعت عنها صورة الضحية وبعد أن انكشفت على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية أخرى. هذه الدلالات تعزّز الاعتقاد بأن أي تغير في معطيات الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لن يحدث بمجرد تغيير في موازين قوى عسكرية، ولا بمجرد حرب وأخرى، ولكنها ستحدث أساساً بفعل التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي يمكن أن تحصل في المجتمعات، في بلدان هذه المنطقة، والتي ستشمل المجتمع الإسرائيلي بالضرورة. الآن، تبدو المنطقة العربية، على رغم كل المعاناة وعلى رغم آلام الولادة، تتجه نحو التغيير، وفي هذه الحالة فإن إسرائيل تقف أمام مفترق طرق فإما تواكب عملية التغيير هذه، ما يعني التخلي عن كونها دولة استعمارية وعنصرية ودينية، وقبول حل الدولة الواحدة الديموقراطية (أي دولة المواطنين أو ثنائية القومية)، أو أي حل آخر يؤدي أو يمهّد له، أو مقاومة عملية التغيير الجارية، ما يعني تحولها إلى ظاهرة رجعية في هذه المنطقة، الأمر الذي يعزّز من مسار نزع الشرعية عنها؛ وفي كلا الحالين فإن إسرائيل تقف في مواجهة عملية تغيير تاريخية. * كاتب فلسطيني