التاسعة مساءً بتوقيت بيروت. الوصول إلى وسط العاصمة حيث الموعد التاريخي مع الفنانة وردة الجزائرية، صعب. زحمة السير الخانقة التي خيّمت على «مدينة الأعياد» خلال الأيام الخمسة الأخيرة، حالت دون الوصول إلى المسرح القائم في أسواق بيروت. تأخر بعضهم في الوصول، لكن عدداً كبيراً وصل قبل موعد الحفلة بساعتين. «وصلت إلى هنا من السابعة، لم أصدّق أني سأشاهدها على المسرح قبل أن ترحل»، تقول ليزا ابنة السابعة عشرة التي طلبت من جدّتها أن تكون هدية عيد مولدها لهذه السنة بطاقة دخول إلى حفلة الديفا الجزائرية. لكن الديفا تأخرت أكثر من ساعة، وليزا ملّت لا تستطيع الانتظار أكثر، وجدّتها مسنّة تعبت من الجلوس «نريدها أن تبدأ كي نهيّص. نحن جئنا من طرابلس لنغني ونرقص». فتردّ صديقتها منى «طبعاً سنغني طالما حافظين أغانيها كلمة كلمة... الله يرحم أيام زمان أيام كان للأغنية قيمة ووقع على مسامعنا». يسمعها محمد الثلاثيني من المقعد الخلفي فيسألها: «أي أغنية تحبين أكثر؟». فتجيب بصوت عالٍ رافعة يديها: «أوقاتي بتحلو» التي لحّنها لها سيد مكاوي». تصمت منى، تتنهّد ثم تقول: «تُذكّرني بالمرحوم، كان يُحبّها كثيراً... يا ليت وردة تغنيها الآن». تتدخّل ميسون (40 سنة) لتعطي رأيها: «يا ليتها تغني كل أغانيها وسأسهر حتى طلوع الفجر لأغني معها». وتضيف: «هذه ليست أغانيَ، هذه كلمات نابعة من القلب ومحفورة في القلب وليست كأغاني اليوم التي أشبّهها بالمحرمة نستخدمها لمرّة واحدة فقط ونرميها». لم ينتظر محمد وردة لتشرع في الغناء، فصار يُدندن الأغنية بصوت عال لترافقه ميسون ومنى وليزا وعشرات من العنصر النسائي الطاغي على حفلة الديفا السبعينية. بعد طول انتظار، اعتلت الخشبة الفرقة الموسيقية اللبنانية (25 عازفاً و8 منشدين) بقيادة بسام بدور، فتنفس جمهور المدرج الذي لم يمتلئ عن آخره كما حصل في مهرجانات بعلبك في عام 2008 حين كسرت وردة عزلتها الجزائرية بحفلتين وصفتا بالأسطوريتين، إذ أعادتا «مطربة الأجيال» إلى جمهورها الذي تقاطر من البلدان العربية ليصل عدده إلى حوالى 8 آلاف شخص. لكن شركة «مون أند ستارز» التي نظّمت الحفلة في بيروت، طلبت من أصحاب المقاعد الخلفية أن يتقدموا إلى المقاعد الأمامية، حتى لا ينفضح الأمر، ما أدى إلى بعض الفوضى والاعتراضات التي سرعان ما سُيطر عليها. وهنا يجدر السؤال: «ألم تعد صاحبة «في يوم وليلة» التي أغنت المكتبة الموسيقية العربية بمئات الأغاني التي تجمع بين النخبوية والشعبية، قادرة على جذب عدد غفير من المستمعين»؟ أم إن الفنانة القديرة التي قال عنها محمد عبدالوهاب ذات يوم «الصوت المتوحش الذي يغنّي على مزاجه»، باغتت جمهورها بحفلة فجائية لم يُحضّر لها في شكل جيد؟ الجواب أتى سريعاً حين أطلّت الوردة المهيبة بثوبها الأصفر والفضي، محطّمة كل الحواجز الزمنية بينها وبين جمهورها الذي وقف إجلالاً وصفّق طويلاً اعترافاً بعدم شيخوخة الفنان الحقيقي مهما تقدّم في السنّ. بعد مقدمة موسيقية لأغنية «العيون السود»، أطلق الجمهور لحناجره العنان مع «لولا الملامة»، و«اسمعوني»، و «بتونّس بيك»، و«قلبي سعيد»، و«طب وانا مالي»، و«أكذب عليك»، و «على عيني» و«خليك هنا خليك»، التي أعادت إلى الذاكرة روح الزمن الجميل وطعم الحب العتيق. أغانٍ أثبتت بصوت الوردة الذي لا يذبل أنها أيقونات طربية لا ينجح مطربو اليوم إلا بأدائهم لها، ولا تحلو السهرات الطربية من دونها، ولا تكتمل قصص الحب العربية والفراق إلا بوجودها. ومن البديهي أن يقفز الحاضرون من كبار السن والشباب والمخضرمين، ويُغنوا بأعلى أصواتهم ككورس مدرّب بدقة، مع هذه الأيقونات التي لحّنها سيد مكاوي وعبدالوهاب ورياض السنباطي ومحمد الموجي وصلاح الشرنوبي وبليغ حمدي الذي جمعتها به قصة حب وزواج «فاشل» كما تقول. فهي ليست مجرّد أغانٍ بل تمثّل ذاكرة جماعية. وليس من السهل أن ترى وردة محمد الفتوكي المولودة من أب جزائري وأم لبنانية في باريس عام 1939، التي عانت أمراضاً ومشكلات لا تحصى، تحرّك جمهورها أمام عينيك بهذه الثقة والعزيمة، سواء كان بغمزة أو «نهفة» أو ضحكة مغناج، أو حتى مناداته ليغني معها. وليس من السهل أن تدمع عينا صاحبة «أنا من الجزائر أنا عربية» و «كلنا جميلة» التي طلب منها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر شخصياً أن تغني في أوبريت «الوطن الأكبر»، متأثرة بتفاعل الجمهور الذي لا يوصف. وردة التي لا تتعب وودّعت جمهورها ب «حرّمت أحبك»، لن تحرِم محبيها من صوتها إذ وعدتهم بإصدار ألبوم جديد، لم تؤدِّ منه أي أغنية في الحفلة، في 29 أيلول (سبتمبر) الجاري من إنتاج شركة روتانا، بعنوان «اللي ضاع من عمري». كما وعدت بإصدار ألبوم خاص بعنوان «أيام» لحّن وألف أغانيه اللبناني بلال الزين الذي سحبت «روتانا» أغانيه من ألبوم «اللي ضاع من عمري» بعد خلافات حادة.