التأليف في التراجم ليس جديداً في تاريخ الأدب العربي، ففي القرن الرابع الهجري وضع ابن النديم كتاب «الفهرست»، وضمّنه طائفة واسعة من تراجم النحويين، واللغويين، وأصحاب الأخبار والآداب والسيرة، والشعراء، والفلاسفة، وسائر المشتغلين في حقول معرفية عرفها ذلك العصر، ولعل «الفهرست» هو الأول في مجاله. وإذا كان الخوض في هذا المجال يهدف الى تأريخ ورصد حركة الأدب والفكر، فانّ للدكتور ميشال جحا، في كتابه الجديد «وجوه نيّرة في الجامعة الأميركية في بيروت» (دار نلسن)، إضافةً إلى هذا الهدف الجليل، مآرب أخرى. فهو، كما يشير في المقدمة، أراد الكتاب حرباً على الحرب القذرة التي عصفت بلبنان في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، وأراد القول إن المترجَم لهم هم مجد لبنان والعرب وليس المليشيات والسياسيين. على أن كتابه هذا ليس خطوته الأولى على درب هذه الإرادة، فقد سبق له أن نفض الغبار عن شخصيات نهضوية، فألّف في كل منها كتاباً مستقلاً، غير أن ما يميّز هذا الكتاب هو تناوله 25 شخصية درّست في الجامعة الأميركية في بيروت، وكانت لها إسهاماتها المختلفة في ميادين الفكر والعلم والأدب والسياسة، وقد درس جحا سبع منهم، وعرف الباقين وكتب عنهم. يلخّص المؤلف أهدافه بالقول: «جلّ ما فعلته أنني راجعت بعض مؤلّفاتهم أو كتبت بحثاً عن بعضهم يظهر مكانته الأدبية أو الشعرية أو الفكرية وأوردت بعض الأخبار التي عرفتها عنهم». غير أنه لم يطبّق هذا المنهج بالطريقة نفسها على الشخصيات جميعها. فقد يخصّ بعضها بحوالى 40 صفحة، كما في حالة الدكتور سليم الحص، وقد يفرد لبعضها الآخر 20 صفحة كما في حالة أنيس فريحة وشارل مالك وإحسان عباس وجبرائيل جبور، وقد لا تتعدّى الصفحات المفردة لشخصية منهم الاثنتين كما في حالة وديع ديب. ويرتبط هذا التفاوت الكمّي بتفاوت نوعي. ففي حين يقتصر بعض التراجم على نبذة مختصرة عن الشخصية، يتّسع البعض الآخر لأبحاث وكلمات كتبها المؤلّف في معرض تكريم الشخصية أو التعريف بأحد كتبها. وعليه، تنتفي العدالة في الترجمة كمّاً ونوعاً. ولعل ذلك يعود إلى حجم المادة الأوّليّة المتوافرة عن هذه الشخصية أو تلك. علماً أن إنصاف الشخصية لا يتعلّق بالضرورة بكمّ المادة ونوعها. وإلى جانب خصوصية العلاقة مع كل شخصية، تُضاف إلى المادة طرائف تجعلها ممتعة. فحين تقرأ حكاية أنيس فريحة مع تاجر «البالة» قيصر بدور، على سبيل المثال، لا يمكنك سوى أن تستغرق في الضحك. وسواء كان العرض علمياً جافاً أو أدبياً ممتعاً، فإنه قلما يخلو من استنتاجات دالّة، علمية أو أدبية، كقوله في أنيس الخوري المقدسي: «كان من بين أوائل اللبنانيين الذين اهتموا بتاريخ الأدب العربي... ووضعوا فيه المؤلّفات العديدة التي اعتُمدت في تدريس هذه المادة»، أو قوله في فؤاد صروف: «هو من الذين أسهموا إسهاماً بارزاً في النهضة العلمية وسعوا إلى تقدّم العلوم في شتى مجالاتها». وإذا كانت الوجوه ال25، يجمع بينها تدريسها في الجامعة الأميركية، فإن لكل وجه صفة عرف بها أكثر من سواها، ما جعل الكتاب ينير مروحة واسعة. لذلك، نقع فيه على مؤرخ الأدب (أنيس الخوري المقدسي، جبرائيل جبور، محمد يوسف نجم)، ومؤرخ النقد (إحسان عباس)، والمؤرخ (قسطنطين زريق، نقولا زيادة، كمال الصليبي، زين نور الدين زين، طريف الخالدي، نبيه أمين فارس)، والشاعر (خليل حاوي، وديع ديب)، والأديب (أنطوان غطاس كرم)، والسياسي (شارل مالك، سليم الحص، ايلي سالم)، والطبيب (فيليب سالم، عفيف مفرج، إبراهيم مفرج)، والعالم (فؤاد صروف)، والباحث (أنيس فريحة)، واللغوي (فؤاد طرزي)، والبيبلوغرافي (يوسف أسعد داغر)، والإداري (خليل سالم)، والمربّي (متى عقراوي). غير أن هذا العمل، على أهميته، شأنه شأن سائر الأعمال البحثية، تعتورُه هنّات هيّنات. ففي ترجمته لزين نور الدين زين ثمة تضارب بين العنوان والمتن حول وفاة الرجل، فيذكر تاريخ وفاته في العنوان (1996) ويقول في المتن: «وهو الآن ملازم منزله في بيروت مع زوجته». وفي ترجمته لخليل حاوي ثمة تكرارٌ للمادة نفسها وهو لزوم ما لا يلزم. فإيراد تغطية جريدة «النهار» اللبنانية لمحاضرة «دار الندوة» هو تكرار للدراسة الواردة في الترجمة والمنشورة في مجلة «دراسات عربية». وفي ترجمته لفؤاد صروف قد ترد الفكرة نفسها في غير موضع من الترجمة، مجملةً مرّة، ومفصّلة أخرى. في كل الأحوال، هذه الهنات لا تنتقص من أهمية العمل، ومن الجهد الذي بذله المؤلّف، إذ كان أميناً على التاريخ، وشهد للسلم الأهلي، وأعلى قيمة الوفاء.