خيّب شباب مصر ظنَّ الكثيرين ممن اعتبروا الثورة المصرية وبقية الثورات التي تجتاح الوطن العربي مجرد ثورات وطنية ليس لها أية أبعاد قومية، معتبرين كلَّ اهتمام قومي موضةً قديمة بفعل اهتراء الأنظمة والحركات القومية التي اكتفت بالإنشاء والشعارات واجترّت أفكارها وأيديولوجياتها ولم تقدم على أية خطوة فعلية لأجل القضية الفلسطينية أو لأجل وحدة المصالح العربية. ربَّ قائل إن هبّة شباب مصر ناتجة عن شعور وطني مصري ثأراً لكرامة بلده في مواجهة الصلف الإسرائيلي المتمادي إلى حدّ الإقدام على قتل جنود مصريين فوق تراب وطنهم. وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن الشعور الوطني لا يتناقض مع نظيره القومي بل يكتمل به ويتكامل معه. لو أصغينا جيداً إلى هتافات شباب مصر المعتصم أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة وقبلها في جمعة فلسطين، لأكتشفنا مدى رسوخ القضية الفلسطينية في الوعي لجمعي لشباب العرب على رغم عقود طويلة من محاولات المحو والطمس وعمليات غسل الأدمغة المدروسة والمبرمجة. لا تستطيع أي ثورة عربية مناهضة للظلم والاستبداد والطغيان تجاهل فلسطين. صحيح الأولوية للحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية وسواها من بديهيات بناء الدول مما أهملته أو سحقته الأنظمة المستبدة، لكن العقود المنصرمة أثبتت طبيعة العلاقة العضوية بين ما يحدث على أرض فلسطين وما يحدث في بقية بلاد العرب. لا الأنظمة التي رفعت لواء مصالحة الاحتلال قدمت لشعوبها ما تصبو إليه ولا الأنظمة التي رفعت لواء مناهضة الاحتلال فعلت. لا يستوي الاثنان في منزلة واحدة طبعاً، لكن لا «الاعتدال» يعوّض غياب الحرية ولا القتال أيضاً، بل ما نفع القتال إن لم يكن في سبيل الحرية أولاً. الحرية كلٌّ لا يتجزأ. لا نستطيع الانتصار لحرية هنا ومناهضة حرية هناك. تُعلّمنا التجارب أن الشعوب الحرّة هي الأقدر على صناعة الانتصارات لا الشعوب المستعبَدة المغلوبة. قد تكون الأولوية الآن، في المرحلة الانتقالية التي يعيشها هذا الشعب أو ذاك للمسألة الوطنية، لكن لا بد، كما تؤشر هبّة الشباب المصري، من إيلاء المسألة القومية الاهتمام الواجب والضروري إذ لا يمكن عافية وطنية أن تستقيم في ظل سقم قومي عام. لا شك في كون الاحتلال الإسرائيلي فلسطينَ بمثابة ورم سرطاني خبيث لا تنحصر مخاطره المميتة في الجزء الفلسطيني فحسب من الجسد العربي الذي عانى ويعاني الأمرين بفعل هذا الاحتلال و نتائجه المباشرة وغير المباشرة، وجميعنا يعرف ما الذي جرى طوال عقود باسم فلسطين أو بحجتها. لذا، لا يعقل أن تصدح حناجر العرب في الساحات والميادين فداء للحرية وتظل فلسطين أسيرة احتلال هو الأبشع في التاريخ الحديث، ويظل الفلسطينيون مترقبين ما يدور من حولهم صامدين صابرين على الظلم الإسرائيلي بدلاً من تحويل موعد إعلان الدولة انتفاضةً شعبية ثالثة أشبه بالأولى لا بالثانية! لا الالتزام القومي يعوّض فقدان الحرية والعدالة ولا الحرية ممكنة بالمفرّق أو بالتقسيط. بلا حرية فلسطين تبقى حريات العرب منقوصة وغير مكتملة. من هذا المنطلق تغدو فلسطين حجة على كل الثائرين العرب وعلى كل القادمين الجدد إلى مواقع المسؤولية، ولن نصدّق نصيراً للحرية وللعدالة لا يطلبهما للشعب الفلسطيني ولا ينتصر لحقه في مقارعة المحتل ونيل مطلبه المشروع في دولة سيدة حرة مستقلة فوق ترابه الوطني. سابقاً كان بعض المقصّرين أو الصامتين يتذرع بالقمع والطغيان. الآن يطغى هدير الحرية على أزيز الرصاص. لا حرّ الصيف ولا قرّ الشتاء يحجبان عنا الظلم اللاحق بفلسطين وشعبها. فهل تكون مصر الثائرة لكرامتها بداية الغيث والغوث لمن تركناهم طويلاً يقاتلون وربهم عدواً جباراً لئيماً؟ مصر تتغير، لئن تغيرت مصر- خصوصاً إذا حصل تحوّل ديومقراطي جدي وحقيقي - لا بد أن يتغير العرب. أم انها مجرد أضغاث شعر وشعراء؟ المأساة الفلسطينية المستمرة منذ عقود محك الثورات وبرهانُ ثوريتها واختبار الضمير الجمعي الجديد. قبل الآن كانت المسؤولية تقع على عاتق الحكّام والأنظمة القامعة شعوبَها. فكانت الشعوب معذورة، الآن الشعوب شريكةٌ في الشاردة والواردة - على الأقل هذا ما يقوله الشارع المصري بحراكه اليومي – ما يعني أن الشعوب باتت مسؤولة أيضاً. كلُّ ثورة ناقصة بلا فلسطين، كلُّ ثورة تكتمل بفلسطين.