صادفت أمس الأحد الذكرى الثالثة والعشرون لرحيل عاصي الرحباني. هذه الذكرى لا يحتاج الكثيرون من اللبنانيين الى مَن يذكّرهم بها. فهذا الفنان الكبير حاضر في حياتهم مثلما هو حاضر في ذكرياتهم، وقد أصبح فنّه أو الفن الرحباني بالأحرى، ملاذاً يلجأون إليه كلما عصفت بهم حرب أو حلّت بهم مأساة، علاوة على العلاقة «القدرية» التي تجمعهم بهذا الفن، القادر على حفظ صورة لوطنهم لم تعد موجودة في الواقع. إلا ان الذكرى حلّت هذه السنة كما لم تحلّ من قبل. فالعائلة الرحبانية بلغت حالاً من الانقسام لم تبلغها حتى في أيام «المحنة» التي شهدتها الأسرة الواحدة. ولعل غياب الفنان الكبير منصور، «النصف» الآخر من الاخوين كما كان يحلو له أن يقول، زاد من احتدام الأزمة التي كانت اندلعت في «عهده»، وكان أحد الشاهدين عليها وأحد أطرافها. ولا يمكن هنا تناسي «الحرب» القانونية التي نشبت قبل بضعة أشهر بينه وبين المطربة الكبيرة فيروز وشارك فيها أبناؤه مثلما شاركت فيها ريما الرحباني، ابنة عاصي وفيروز. أما زياد فكان على حدة، كعادته دوماً، بل كان هو الآخر مشغولاً بمسألة ابنه، «عاصي» الصغير، الذي تبيّن له، بعد ربع قرن، انه ليس ابنه، ولم يكن له إلا أن يتنكّر له بعدما أثبت فحص «الحمض النووي» (دي إن أي) انه ليس ابنه. ماذا يحصل في العائلة الرحبانية؟ عندما توفي منصور، التوأم الفني والروحي لعاصي، شيع أبناء منصور عبر أبواقهم، أن فيروز لم تعزِّهم خلال أيام التعزية، وكانوا صادقين، لكنّ فيروز لم تلبث أن قصدت منزلهم وعزّتهم، بعدما روّج الإعلام «الأصفر» خبر انكفائها عن التعزية. كان هذا الموقف الذي اعتبره هذا الإعلام فضيحة، دليلاً على أن العلاقة بين الأسرتين بلغت مبلغها من التوتر والقطيعة. ولم تمضِ أسابيع حتى انفجرت علانية، عبر البيانات الصحافية التي توالى على توقيعها أبناء منصور وريما الرحباني. كانت ريما على حقّ في احتجاجها على القرار الذي أصدرته وزارة التربية اللبنانية بعيد رحيل منصور ويقضي ب «تشكيل لجنة لتخليد فن وأدب منصور الرحباني والعائلة الرحبانية في المناهج التربوية». وأدرجت ريما هذا القرار في جريرة الاجراءات «المفخخة» التي حالت دون تكريم عاصي بعد وفاته ومنها تسمية شارع باسمه وإصدار طابع بريدي يحمل اسمه وصورته... عطفاً على الحملات الرامية الى تجاهله، سرّاً أو جهاراً. بدا قرار وزارة التربية مجحفاً جداً بحق عاصي وبحق الفن الرحباني الذي رسّخه «الاخوان»، ولم يكن بريئاً كما قد يخيل لبعضهم، فهو ركّز على فن منصور ثم على فنّ العائلة الرحبانية التي لم يحددها. فالعائلة الرحبانية كبيرة ومتعددة وتشمل فيروز وأسرتها وزياد وأبناء منصور والياس الشقيق الصغير وأبناءه ومنهم غسان الذي خاض أخيراً الانتخابات النيابية وخسر. احتجت ريما الرحباني في بيانها على هذا «الالغاء» السافر لاسم والدها وعلى إسقاطه من مقولة «الاخوين» مع أن بعض العارفين يرون أن عاصي كان الجذع الذي قامت عليه الظاهرة الرحبانية. ولم يكن على أبناء منصور إلا أن يردّوا بلهجة قاسية على ابنة عمهم التي سمّوها «الآنسة ريما» مبرّئين أنفسهم من أي تهمة توجه اليهم. ماذا يحصل في العائلة الرحبانية؟ قبل أن يرحل الفنان الكبير منصور بدا أبناؤه كأنهم يسعون الى عزله عن تاريخه المشترك مع أخيه عاصي، وراحوا يركّزون على أعماله التي أنجزها بعد رحيل توأمه وكأنها هي الأهم أو كأنها تمثل مرحلة النضج الحقيقي. وكان كلامهم يدور غالباً حول هذه الأعمال، متناسين التاريخ الرحباني المشترك. بل إنهم أعلنوا غداة رحيل والدهم أنهم سيقدّمون مسرحيته «صيف 540» في أحد المهرجانات الصيفية، وألمحوا الى أن منصور ترك أعمالاً جاهزة، ما يعني انهم سيواصلون «ركوب» الموجة «المنصورية» التي جلبت لهم الكثير من الشهرة والرواج. كان من الممكن أن يقدم هؤلاء الأبناء عملاً من تراث «الاخوين» فيكون بمثابة تحية الى الفن الرحباني العظيم. لكنهم آثروا التفرد ب «إرث» منصور، مغفلين نصفه الآخر الذي لا يمكن فصله عنه. آثر أبناء منصور بالسرّ، أن يفصلوا والدهم عن عمّهم، موجهين ضربة الى «الأسطورة» الرحبانية وجاعلين من والدهم نجماً دائماً ومن عمّهم ذكرى. وقد فاتهم أن معظم النقاد والجمهور يعلمون جيداً أن منصور بعد عاصي لم يبق كما كان مع عاصي، وهذا بديهي، وأن أعماله الأخيرة لم تستطع أن تنجو من «فخ» التكرار والتقليد، حتى بدا منصور ما بعد «الاخوين» كأنه يقلّد منصور «الاخوين»، وهذه المسألة تحتاج الى وقفة طويلة. كان قرار وزارة التربية الذي «فصل» بين منصور وعاصي قراراً اعتباطياً ومتسرّعاً غير بريء. وقد يكون وراءه أشخاص منحازون ومتواطئون ومتآمرون على المدرسة الرحبانية. وما يؤكد سوء النية هو العدد الخاص الذي أصدرته «المجلة التربوية» وضمّنته نص «القرار» المستهجن وقد سبقته افتتاحية لرئيسة المركز التربوي تمدح فيه منصور وحده، مخاطبة إياه قائلة: «اطمئن يا معلّم منصور... سنجدك في النص والبحث، في اللغة والشعر والأدب، في التربية الوطنية، في القصة والمسرحية، في اللحن والأغنية...». أما عاصي فلا محلّ له في المركز التربوي ولا في البرامج ولا في الافتتاحية... كان يحق لريما الرحباني أن تحتج ولأبناء منصور أن يردّوا، والسجال سيطول، فالعائلة الرحبانية مهددة بالمزيد من التفكك والانقسام... لم يأكل عاصي ومنصور الحصرم، لكنّ الأبناء، لا سيما أبناء منصور شبعوا «ضرساً»...