تشكل الأزمة المالية العالمية الثانية خلال خمس سنوات، منعطفاً تاريخياً مهماً. فهي ليست فقط أخطر كثيراً من أزمة عام 2008 الناتجة من مشكلة القروض السكنية في الولاياتالمتحدة، بل تحمل في طياتها الكثير من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد العالمي، بخاصة إخفاق النظام السياسي في كل من الولاياتالمتحدة وأوروبا في إيجاد حلول عملية وسريعة للتحديات التي تواجه نظاميهما الماليين، ومن ثم تجنيب اقتصادات هذه الدول، بل العالم، أزمة مالية. إن المشكلة أكبر كثيراً من قدرة البنك المركزي الأوروبي على التعامل مع الديون السيادية لبعض دوله الأعضاء، أو توصل قادة الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولاياتالمتحدة إلى حل مناسب لمعالجة سقف الديون السيادية الأميركية، خصوصاً مع استقواء «حزب الشاي» في الهيمنة على قرارات الحزب الجمهوري في الكونغرس والمعارضة الأيديولوجية لأي زيادة في نفوذ الحكومة الفيديرالية. فالمشكلة أكبر من ذلك، وتتمثل في بروز بلدان (الدول الناشئة) ذات قوة اقتصادية لا يستهان بها تستطيع منافسة الدول الغربية. وتكمن المشكلة كذلك في مدى إمكانية شعوب الدول الغربية على الاستمرار في الإنفاق على مستوى معيشي عال ومكلف في ظل المنافسة التي تواجهها والأقل كلفة، ومن ثم إمكان الاستمرار في نظام «بريتون وودز» الذي تأسس بعيد الحرب العالمية الثانية. هل سيستمر هذا النظام الاقتصادي العالمي من دون تغيرات كبرى؟ هناك شكوك كبيرة في ذلك، إذ يتوجب للنظام الاقتصادي حتى يستمر في أدائه أن يأخذ في الاعتبار المعطيات الجديدة على الساحة الدولية وأن ينجح في تفادي الأزمات. ويعتمد ذلك على التطورات التاريخية والسياسية المقبلة، منها التنافس بين الدول أو الصراع في ما بينها. ومن هذا المنطلق، هل ستستمر الدول النفطية مركزاً لتصدير المواد الهيدروكربونية ولرأس المال، أم ستبدأ في لعب دور أكبر على صعيد النظام الاقتصادي العالمي؟ هناك أسئلة تطرح في هذا المجال، ومن ضمنها مثلاً: هل تستطيع الدول النفطية أن تتبوأ مركزاً متقدماً في النظام الاقتصادي العالمي الجديد، حيث تتغير موازين القوى بين الدول الغربية الصناعية والدول الناشئة (الصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل). هل تستطيع أن تخلق لنفسها موقعاً اقتصادياً وسياسياً في ميزان القوى الجديد، من دون تغيرات داخلية واسعة النطاق، بخاصة في مجال تنويع مواردها الاقتصادية، والاستفادة من تعليم شبابها من خلال إيجاد فرص العمل الإنتاجية الملائمة لهم، وكذلك من خلال الدفع بمجتمع مدني اكثر ديناميكية وحرية، وانتهاز هذه الفرصة لبناء مجتمعات حديثة حيث تعم ثقافة المواطنين من دون تفرقة بينهم اجتماعية ودينية وطائفية للمواطن، أو سنبقى أسرى الماضي المتراكم والمدمر لمجتمعاتنا. إن الدور الذي على الدول النفطية أن تتبوأه في النظام الجديد لن ينبع فقط من من ثروتها النفطية أو من ريعها البترولي. فمن دون تغيرات أساسية في مجالات السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، ستبقى هذه الدول تعيش على ثروة ناضبة وتلعب دوراً مكملاً للغير معتمدة على إبداع الدول الأخرى. لقد استفادت الدول النفطية من القفزة النفطية في أوائل السبعينات، لكن هل تستطيع الانتقال إلى مرحلة أعلى مستقبلاً؟ هناك مجالان يمكن الدول النفطية فيهما أن تغير ثقل دورها الاقتصادي وأهميته عالمياً. أولاً: من خلال عقلانية سياستها الداخلية، بالذات في تحرير المواطنين من ثقل العبء التاريخي، ومن ثم في فتح المجال للتنافس العادل المحلي ومع الشعوب الأخرى. ونذكر هنا أننا استطعنا على رغم كل المشاكل، إنشاء صناعة بترولية وبتروكيماوية حديثة ومنافسة. ومن الممكن تدريجاً إنشاء صناعات أخرى ذات علاقة تنافس عالمياً. والمجال الآخر هو توسيع دور الدول النفطية عالمياً. وهي تستطيع أن تحقق ذلك عبر استغلال محافظتها طوال السنوات الخمسين الماضية، على الدور الفعال لمنظمة «أوبك»، وإعطائها دوراً أكبر على الصعيد الاقتصادي العالمي يتجاوز مجرد التركيز على سياسات الإنتاج البترولي. وهذا ليس بالشيء الجديد على هذه المنظمات، فقد نشأت وكالة الطاقة الدولية من رحم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لكن الاستمرار على المنحى الذي نسير فيه الآن مصيره الفشل، لأنه لا يستطيع المنافسة خارج الإطار البترولي. طبعاً، يكمن السؤال في معرفة مؤشرات التغيرات الحاصلة دولياً والتي ستدفع بتغيير النظام الاقتصادي العالمي، خصوصاً مع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، وهيمنة الدولار في الأسواق المالية. إن عولمة الاقتصاد الدولي تعني قبل كل شيء، المنافسة بين الدول الصناعية، أي إنتاج السلع بالجودة ذاتها وبأسعار أقل، وإمكان تسويقها عالمياً. ولا حاجة لذكر الأرقام هنا. إذ يستطيع المستهلك في مختلف أرجاء العالم أن يتعرف على النتيجة من خلال تسوقه اليومي. فالبضاعة الصينية مهيمنة على الأسواق، وتنتجها شركات صينية أو دولية (تستثمر في الصين للاستفادة من سوقها الضخمة بالإضافة إلى التصدير للاستفادة من اليد العاملة الأرخص نسبياً). إن انتقال الصناعات إلى الصين ودول ناشئة أخرى يعني أن اقتصادات الدول الغربية أخذت تركز على الخدمات اكثر فأكثر، وبالذات القطاع المصرفي والمالي، الذي نما من دون رقابة صارمة. فهذه المصارف تمنح العلاوات بملايين الدولارات سنوياً لموظفيها، حتى في حال خسارتها، كما أن المضاربات أخلت بالأسواق وبموازين العرض والطلب من عملات صعبة أو سلع أساسية، ما أضر بالاقتصاد العالمي. إن التغيير في الدول الناشئة لا يمر من دون عقبات. ومن ثم، فإن قدرة هذه الدول على تبوّء مركز مهم في الميزان الاقتصادي العالمي الجديد لن يأتي بسهولة، بل ستكتنفه عقبات وعراقيل داخلية وخارجية (فهناك على سبيل المثال، مشاكل الفقر المدقع والانتقال من الريف إلى المدن واستقرار الأنظمة السياسية في الدول الناشئة في ظل الأعباء الاقتصادية والاجتماعية)، كما هناك النزاعات العسكرية، وهي كثيرة، وأهمها الصراع بين كوريا الشمالية والجنوبية وأبعاده على البلدين وجيرانهما، ناهيك عن أخرى قد تحصل لفرض قوة دولة كبرى على أخرى، بعد الصراعات الاقتصادية التي بدأت تنشب فعلاً. * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية