هل يمكننا أن نقول أن الأزمة الاقتصادية قد انتهت بعد عديد ترليونات الدولارات التي قُدِّمت للبنوك ولبعض الشركات؟ لقد كانت نتيجة قمة العشرين في لندن قبل مدة هي ضخ ترليونات الدولارات كحل للأزمة التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي، وبدا أن هذه الوصفة قد نجحت، حيث تحسنت أسواق الأسهم لبعض الوقت. لكن هل لاحت في الأفق بوادر نهاية الأزمة؟ ربما كان سوء فهم طبيعة الأزمة مدخلاً للاعتقاد بأن ضخ الأموال سوف يفضي إلى تجاوزها، حيث بدت وكأنها أزمة إفلاسات بنوك نتيجة نقص السيولة. ورغم أننا نتابع يومياً الأخبار حول إفلاس بعض الشركات، أو التسريح المتزايد للعمال من شركات ضخمة، أو اندماج بعض الشركات، إلا أن تراجع الحديث عن أزمة البنوك أوحى بأن الأزمة قد انتهت أو هي على مشارف النهاية، وأن الأمور بالتالي سوف تسير بشكل طبيعي وإنْ ببطء ولمدة زمنية قد تطول كما أشار باراك أوباما مراراً. لكن إذا درسنا طبيعة الأزمة من زاوية أخرى سوف نلمس أنها ما زالت في بدايتها على عكس ما يوحي الإعلام. لقد كان الحل السريع الذي قامت به كل الدول الرأسمالية هو ضخ الأموال للبنوك، انطلاقاً من «نقص السيولة» الذي يمكن أن يؤثر على مجمل الاقتصاد. وكانت البنوك قد شهدت خسائر نتيجة الإقراض المتزايد، والذي فاق كل تصور، إضافة إلى انهيار أسواق الأسهم بعد أن تضخمت الأسعار بطريقة غير عقلانية في اقتصاد طبيعي. وإذا كان المدينون لم يعد باستطاعتهم السداد فقد ورثت البنوك أصولاً هي أقل من قيمة القروض بكثير، الأمر الذي أفضى إلى خسائر فادحة، أدت إلى «نقص السيولة». وبالتالي فقد قامت الحكومات الرأسمالية بتعويض هذه الخسائر لدى معظم البنوك. وهنا يبدو أن وضعها قد استقر. في المقابل، أدت الخسائر في أسواق الأسهم إلى إفلاس قطاع كبير من المستثمرين المتوسطين والصغار، كما أن العجز عن دفع القروض قد أفضى إلى إفلاس قطاعات كبيرة من مالكين صغار، أو من محدودي الدخل الذين حاولوا دخول التوظيف في الأسهم أو اقترضوا من أجل شراء بيت. وهو الأمر الذي عنى أن نسبة كبيرة ممن كانت لديهم مقدرة على شراء السلع المختلفة قد تراجعت مقدرتهم، وباتوا بحاجة إلى إعانة. وكذلك فإن الأزمة قد دفعت بالبنوك والشركات إلى تسريح أعداد متزايدة من العمال، وهو الأمر الذي أفقدهم القدرة الاستهلاكية. هنا سوف نلحظ أن الأزمة المالية بدأت تؤثر على الاقتصاد الحقيقي، حيث تراجعت مستويات المعيشة، وتراجعت المقدرة على الاستهلاك. وهو الأمر الذي سوف يقود إلى انتقال الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي أكثر مما نشاهد اليوم، حيث أن أزمة الشركات القائمة الآن هي نتاج توظيف هذه الشركات فائض استثماراتها في أسواق الأسهم والعقار، وبالتالي فقد انعكس انهيار أسواق المال مباشرة عليها. لكنها في المرحلة القادمة سوف تتأثر أكثر بفعل تراجع المقدرة الشرائية لدى قطاعات كبيرة من العمال والفئات الوسطى. ولا شك أن المتابع لما يعلن عن خسائر الشركات المنتجة يعرف المآل الذي سوف تتصاعد فيه الأزمة. لقد كان يمكن أن تُدعم الفئات تلك للحفاظ على مقدرتها الشرائية، التي تقود حتماً إلى استقرار الاقتصاد الحقيقي، أي ذاك المتعلق بالاقتصاد المنتج أساساً. لكن ذلك يعني خسائر هائلة للطغم المالية المهيمنة، التي هي ذاتها توظف في المضاربات وتمتلك الشركات المنتجة، حيث أن الفائض المالي لديها هو أكبر مما يستوعبه التوظيف في الاقتصاد الحقيقي. وربما كانت هنا المفارقة التي تحتاج إلى بحث لمعرفة طبيعة الأزمة، وعمقها، وبالتالي مآلها. إن الأساس الذي بات يولّد الأزمات المستمرة في الرأسمالية هو أن الفائض المالي (وأنا هنا لا أطلق عليه تعبير رأسمالي لأنه بات خارج العملية الإنتاجية كلها) بات أضخم من أن يستوعبه الاقتصاد الحقيقي، فقد أشبعت قطاعات الاقتصاد المختلفة (الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات) بما يجعل أي توظيف إضافي تدميراً لمجمل الاقتصاد. ولقد لمسنا كيف أن التنافس بين الشركات كان يضعها في أزمة، ويفضي إلى إفلاسها، وبالتالي تحقق الاندماجات التي هي نتيجة أزمة المنافسة وبالتالي ميل الأقوى إلى ابتلاع الأضعف. وربما كانت أزمة شركات السيارات مثالاً على ما أود الإشارة إليه، رغم أن المسألة تتعلق بكل الاقتصاد الرأسمالي الحقيقي، الصناعي والزراعي والخدماتي والبنكي كذلك. لهذا ليس من الممكن ضخ رساميل جديدة في هذه القطاعات، وبالتالي أين يذهب المال المتراكم إذن؟ المشكلة أنه ليس من الممكن أن يخزّن هذا المال في البنوك لأنه أصلاً موظف فيها، وبالتالي فإن البنك مضطر إلى دفع فائدة ما. لهذا أصبح يبحث عن مجالات للتوظيف خارج الاقتصاد الحقيقي، وهو ما فرض ضخ أموال إلى السوق أكبر من قدرته الاستيعابية مما قاد إلى تضخم الأسعار في قطاعات عديدة منها العقارات وأسواق الأسهم. وما من شك في أن التضخم يقود إلى العجز عن السداد، وبالتالي الإفلاس. هذه صيرورة باتت مستمرة في الرأسمالية، حيث ما دام هناك ربح هناك تراكم مالي، لكنه بات لا يجد مجالاً للتوظيف سوى المضاربة. لكن المشكلة تكمن في أن ذلك يؤثر مباشرة على الاقتصاد الحقيقي، ويؤدي إلى أزمات عميقة. فقد أفضى هذا الوضع إلى تضخم شديد في قيم العقارات والشركات جعلها عشرات أضعاف قيمتها الحقيقية، وهذه مشكلة عويصة. كما أن هذا التضخم أوجد كتلة نقدية دولارية أضخم بكثير من كل الإنتاج العالمي، وبالتالي باتت تشكل عبئاً على الاقتصاد الحقيقي كذلك. كيف ستحل هذه المشكلات؟ ربما عبر انهيارات وأزمات مستمرة، حيث ليس من الممكن للاقتصاد الحقيقي أن يستمر في وضع تجثم عليه فيه فقاعة مالية لا تفعل سوى المضاربة، ولقد باتت أضخم من الاقتصاد الحقيقي ذاته. * كاتب سوري