تختلف نماذج التغيير والإصلاح في بلادنا، من دون أن تبلغ هنا أو هناك سويّات معيارية، يمكن نشدانها أو تطبيقها بما هي كذلك. وهي إن قدمت نماذجها الخاصة، فلكونها ليست معيارية، قدر ما كانت وتكون خصوصياتها نابعة من إشكالاتها المحلية الداخلية قلباً وقالباً. إلاّ أن هذه الإشكالات جميعها، تتفق في الوقوف على قاعدة أساسها أنها مشروع تغيير ديموقراطي سلمي، يستهدف الإصلاح السياسي؛ كبداية لمجموعة من إصلاحات هيكلية عميقة. لهذا «تقرر» شعوب هذه البلدان، أنها بثوراتها الشعبية الديموقراطية والتحررية، إنما تصيغ اليوم تاريخها الجديد، انطلاقاً مما تريد هي، وتريد بُناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستقبلية، تلك البُنى التي تتطلب إصلاحات عميقة وتغييراً متواصلاً، تفرض سيروراته تبدلات جذرية في طبيعة السلطة السياسية، وفي القاعدة الاقتصادية المعتمدة في ظل نظام جديد، يقطع مع نظام الفساد والإفساد الاستبدادي الذي كانه ويكونه نظام التبعية التقليدي الذي تتخلخل أساساته وأركانه، فتفكيك قواعده على وقع ربيع الثورات الشعبية العربية، تلك التي انتصرت جزئياً، أو تلك التي تشهد مخاطر تحويل أنظمتها لانتفاضات شعوبها إلى مواجهات أهلية وفوضى شاملة؛ على ما وعدت وتعد بها شعوبها، إن هي واصلت تمردها وخروجها على قيم الطاعة والخضوع التي طالت في الزمان، وفي أروقتها طويلاً وأطول مما كان يتوقع أن يكون الخضوع. لهذا كان من الأفضل رمي الأنساق المعيارية المسبقة، عن الثورات الشعبية الراهنة خلف ظهورنا، من أجل اكتشاف الطبيعة الخصوصية الراهنة لأشكال من انتفاضات وثورات شبابية شعبية، أبدعت طرائق خاصة بها في تحويل وقيادة حركات شعبية غير تقليدية، لا تعرف مساومات النخب على اختلافها؛ المصلحية والمنفعية والزبائنية، الأمر الذي يجعل من ثورة الشعب المصري، كما التونسي، تواصل سيرورة مسيرها الطويل من أجل الإصلاح والتغيير وقلب المعادلات القديمة التي قام عليها النظام. وكذلك في المغرب على رغم الفارق وخصوصية التجربة التي يحاول إرساءها الملك وموقف شباب الثورة منها، وإصرارهم على التغيير والإصلاح الدستوري من أجل تحويل النظام هناك، إلى ملكية دستورية كاملة، وليس الاكتفاء بترقيعات دستورية لا تلبي طموحات أبناء الشعب كافة. وإذا كانت التجربة في البحرين تعثرت، فهي ما زالت تعد بجولات أخرى من التحركات الاحتجاجية من أجل إرساء إصلاحات دستورية. وفي سياق آخر، فإن النموذج الليبي يقدم صيغة أخرى، من صيغ التحولات السياسية التي تريد أن تأخذ على عاتقها مهمة إصلاح وتغيير؛ هي انعكاس لحلم تحرري ديموقراطي ووطني، للتخلص من التبعية بعد إنجاز مهمة الخلاص من نظام القذافي، وبناء دولة مدنية حديثة ديموقراطية تعددية، تستقل بذاتها وبشعبها عن كل مؤثرات ومفاعيل التبعية والارتباط بالخارج. كذلك في اليمن يقوم نموذج نظام علي عبدالله صالح كنظام قبلي مغامر، على مقامرة غير محمودة العواقب، يعرف النظام ورأسه أنها ستؤدي باليمن إلى أتون حرب أهلية وفوضى شاملة، هو الذي بشّر بها وعبر سلوكه هو ذاته؛ يدفع في اتجاهها؛ بحجج وذرائع الدفاع عن الدستور والتوجهات الدستورية في ظل معالجات غير دستورية، وحلول قمعية يتبناها النظام ويحاول تثبيتها نهجاً متواصلاً لقيادة اليمن نحو حل تدميري، بينما يحافظ يمنيو الثورة على سلمية تحركاتهم واحتجاجاتهم، على رغم الدم الذي غطى الشوارع ويغطيها، بفضل تشبث استبدادي بالسلطة من بعض السلطة... أخيراً، يقدم نموذج الإصلاح السوري، أحد إشكالات أساسية، من سماتها الأهم فقدان الثقة التامة بين النظام ومعارضيه، والبون الشاسع الذي بات يحكم الآن، وبعد أكثر من أربعة أشهر من احتجاجات شعبية تتوسع باضطراد، مفاهيم الإصلاح لدى الطرفين، لا سيما أن الحلول والمعالجات الأمنية حجبت وتحجب، بل قتلت موضوعياً وذاتياً كل إمكانية لإقامة حوار سياسي منتج، في ظل استمرار النظام في خياراته الأمنية والعسكرية. وإذا كانت لنائب الرئيس السوري (فاروق الشرع) في كلمته الافتتاحية للقاء التشاوري، في العاشر من تموز (يوليو) الماضي فضيلة الاعتراف بعدم المكاشفة والشفافية اللازمتين، عبر «رمي نفاياتنا تحت سجادنا من دون التفكير بالمستقبل»، فإن هناك من لم يزل يعمل وفق هذا النمط من التعامل البعيد من السياسة، والبعيد من الإيمان بالتعددية، حيث الماضي والماضي وحده لا يزال سيد الحلول والمعالجات المضادة للإصلاح والتغيير الممكن. لذلك نحن في مواجهة مهمة تاريخية نبيلة، لا ينبغي التحرّج في الإعلان عنها، أو تأييدها حتى الرمق الأخير من إزهاق روح الديكتاتوريات وأنظمة الاستبداد الطغيانية، حتى نضمن إنجاح مهمة تعريض تاريخنا ومجتمعاتنا لنفحات ونسائم الحرية والعدالة والمساواة والقانون، وتحرير كل ما صادرته الأنظمة، ولم يكن بالمطلق حقاً لها في أن تصادره، أو تحتفظ به في ثلاجة الموات غير الطبيعي. * كاتب فلسطيني