إنه من أولئك الكتّاب الذين يُعتبرون مؤلفي الرواية الواحدة. كتب رواية ذات مرة في حياته، مرة ثم لم يكرر التجربة بعد ذلك أبداً. كان يقول لمن يسأله عن السبب إنه في الأصل ليس كاتباً، ويكفيه أن يكون رساماً. أما تلك الرواية، فإنه إذ رآها في موضوعها، كما في أجوائها، يومَ كانت فكرةَ لوحةٍ، شديدةَ التعقيد، قرر ان من الصعب على الألوان والخطوط أن تعبر عنها، لذلك آثر أن يرسمها بالكلمات، وفَعَلَ. وهكذا ولدت تلك الرواية، التي حملت اسم «الجانب الآخر»، وجعلت المتحدثين عن حياة صاحبها، الرسام ألفريد كوبين، يقولون ان كل ما فعله هنا إنما كان «الانتقال الى الجانب الآخر من اللوحة». وألفريد كوبين سيقول أيضاً ودائماً، إنه لم يكتب «الجانب الآخر» لمجرد أن يبدع عملاً أدبياً روائياً، بل كان مراده منها أن تساعد الراوي - والقارئ بالتالي - على فهم الحركة التي تحرك الكون: أي اللعبة التي تقوم بين «الين» و «اليانغ»، بين الأبيض والأسود... وكوبين، الذي يعرف أنه واحد من كبار الرسامين في القرن العشرين، أحب دائماً أن يروي تلك الظروف التي أدّت الى ولادة هذه الرواية. ففي العام 1907، حيث مات والده، مر رسامنا في حال من اليأس والقنوط الكاملين. وحين حاول أن يقف أمام ألوانه ويرسم، شعر أنه عاجز عن رسم أي خط وأي لون، هو الذي كان معروفاً بشغفه بالعمل. وهكذا «لكي أفعل شيئاً في حياتي، ولكي أشعر بشيء من الراحة، رحت أتخيل تلك الأحداث الغريبة التي ستشكل عالم هذا النص، ودوّنت مئات الملاحظات... منذ تلك اللحظة راحت الأفكار تتدفق علي وتحثني ليلاً ونهاراً على الكتابة، الى درجة أنني أنجزت الرواية -من دون أن أعرف أنها ستكون رواية وستنشر وتقرأ- خلال أقل من ثلاثة أشهر. ثم بعد ذلك، وخلال شهر تالٍ، رحت أرسم للقصة لوحات معبرة... وبعد أن انتهيت من ذلك كله، شعرت بأنني منهك تماماً... بل إنني بدأت أشعر بقلق كبير لا أعرف حتى الآن سره». ولكن ما هي «الجانب الآخر» بعد كل شيء؟ هل هي رواية غرائبية؟ أمثولة سياسية؟ حكاية سوريالية؟ هل هي عمل تعليمي يتعلق بالسحر والشعوذة؟ أو نص ميتافيزيقي يبحث في الماورائيات؟ أم انها ليست في نهاية الأمر، وكما يرى البعض، أكثر من هلوسة نابعة من هذيان ما؟ ان النقاد يجيبون على هذه الأسئلة بوضوح: «الجانب الآخر» هي كل هذا في الوقت نفسه. ل «الجانب الآخر» راو يحكي لنا كيف أنه منذ بداية أحداث روايته هذه أراد ان ينطلق مع صديق طفولته البليونير كلاوس باتيرا، الكاره لكل ما هو تقدمي، الى «إمبراطورية الحلم» الواقعة في مونغوليا، ترافقه زوجته. و «إمبراطورية الحلم» هذه هي أرض منفصلة تماماً عن بقية أنحاء الكون حيث تعيش بوصفها محمية طبيعية. أما عاصمتها، فتدعى «بيرل» وهي المدينة الرئيسية في دولة لا تزيد مساحتها على 3000 كلم وسكانها على 65 ألف نسمة، وسكان هذه الامبراطورية أناس طيبون، مرهفو الحس، حسنو السِّمات، شجعان، زرق العيون، لكنهم في صراع دائم مع ذواتهم، خلال سعيهم الى كل ما هو مثير في حياة تبدو في نهاية الأمر روتينية... وهم، في الوقت نفسه، مغامرون يسعون الى السلام، ومجرمون أيضاً... إنهم كل شيء، وكل ما في الكون من طباع في الوقت نفسه. أما القوانين التي تحكم وجودهم، فهي قوانين شديدة الغرابة تجعل القدر يعطيهم في الوقت نفسه، سعادةً لا تضاهى وألماً لا يُحتمل. أما الحكم هنا، فيديره قوم غريبو الأطوار، يبجلون جميعاً كائناً واحداً، كما يبدو، هو كلاوس باتيرا نفسه. وإذ يصل الراوي الى ذلك المكان الغريب، حيث السيادة لصديقه، يفقد زوجته، ما يجعله يدرك منذ البداية ان أرض الأحلام يمكن أن تصبح أرض الكوابيس أيضاً. بيد أن الراوي يتقبل مصيره، تماماً كما يتقبل وضع صديقه القديم من دون أن يطرح على نفسه أسئلة حقيقية أو علامات استفهام، خصوصاً أن الراوي يشعر بأن سيد المكان يستحوذ عليه تماماً ويسيطر على روحه... وهنا يطرح الراوي على نفسه سؤالاً واحداً يشغله: لماذا ترى كلاوس يختبئ ولا يراه أحد... حتى الذين يحبونه حباً فائقاً؟ انه غموض إضافي سرعان ما يشعر راويتنا أنه غير راغب وغير قادر على سبر أغواره. وتظل الأمور عند ذلك المستوى حتى يقرر ثري أميركي وصل الى المكان أن يثور ضد كلاوس. اسم الرجل هرقل بيل... وهو ما إن يتمكن من ذلك، اي من التغلب على السيّد السابق، أي صديق الراوية، حتى يجمع المستائين والثوار طالباً منهم أن يقلبوا سلطة المعلم الطاغية جاعلين من الشيطان سيداً لهم ومن الحرية أقنوماً، الى جانب الأخوة والعلم والقانون... في نهاية الأمر يتمكن الثوار من التغلب على كلاوس باتيرا ويتخلّون عنه لصالح الزعيم الجديد... وإذ تصبح السلطة في أيديهم، تبدأ الكوارث الطبيعية والأخرى غير الطبيعية بالتسلل الى حياتهم. وهكذا، وفي شكل تدريجيّ، يقضى على أجزاء منهم، أما الناجون فإنهم سرعان ما يبدأون في الاقتتال في ما بينهم. وفي النهاية يحل يوم عجيب يشهد نجاة سبعة أشخاص فقط من بينهم هرقل بيل... أما الرجال ذوو العيون الزرق، فإنهم يختفون الى الأبد. واضح هنا اننا أمام عمل ذي مفاتيح، بمعنى ان في امكان من يقرأه أن يفسر الشخصيات كما يفسر الأحداث، في شكل يضفي على النص واقعية شفافة. غير ان هذا الأمر يبدو مخادعاً حقاً هنا، طالما ان المرء حين يبدأ في تفسير ما، سيجد نفسه بعد حين وقد فقد بوصلته، أي يجد نفسه، وغالباً بسبب تفصيل لم يكن قد حسب له حساباً، أمام طريق مسدود لا يفضي الى أي مكان، ما يجعله يعيد البدء في التفسير واصلاً الى طريق أخرى مسدودة، وهكذا. وكأن الكاتب قد شاء هنا أن يجعل من نصه أحجية همها إضاعة وقت الغائص في ثناياها وإعادته دوما الى النقطة التي ابتدأ منها. ومع هذا، فإن كثراً هم الذين وجدوا دائماً ان تفسير هذه الرواية، التي تنتمي الى الحداثة ولكنها تغوص في أسئلة ما برح الإنسان يطرحها على نفسه منذ ألوف السنين، هو أقرب مما يتصور الجميع... خصوصاً ان في نص «الجانب الآخر» ما قد يبدو -لمن يشاء- بديهياً. ولد ألفريد كوبين (1877 - 1959) في بوهيميا، واعتُبر «كاتباً» ورساماً نمسوياً... وعرف طوال حياته بفوضاه وعدم امتثاليته وضراوته. كما عرف بأنه منذ الطفولة اصطدم بعنف بعالم البالغين. وهو فقد أمه حين كان في العاشرة فلم يبال إزاء ذلك، ولكنه أمضى كل حياته التالية نادماً على ذلك الموقف. في العام 1898 سافر كوبين الى ميونيخ حيث اكتشف الفن وبدأ يرسم. وهنا مرة أخرى أصابه القدر، اذ اختطف منه خطيبة أولى له، ما أوقعه من جديد في وهدة اليأس التي سوف يوقعه فيها بعد سنوات قليلة موت أبيه. ومن الواضح ان كل تلك الميتات «الغامضة»، كانت ذات أثر حاسم، ليس في كتابته «الجانب الآخر» وحسب، بل أيضاً وخصوصاً، في الأسلوب المقابري الشاحب الذي طالما هيمن على حياته وعلى لوحاته التي كانت دائماً أعمالاً على حدة خلال النصف الأول من القرن العشرين. [email protected]