يحاول بعض الأطراف في الأكثرية النيابية استغلال العتب السوري على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بسبب مواقفه من الأحداث الجارية في سورية، بشن حملات من التشكيك والتحريض لم تظهر حتى الساعة الى العلن وتتوزع بين اتهامه بتوفير مادة سياسية دسمة للمعارضة التي انتقلت الآن من موقع المراقب لما يدور في سورية الى الهجوم على الرئيس بشار الأسد، وبين التلميح الى أنه يستعد للعودة الى قواعده السابقة في قوى 14 آذار. وعلى رغم أن جنبلاط حرص منذ البداية، في تناوله لما يجري في سورية، على استخدام حرفية ما قاله الرئيس الأسد من دون زيادة أو نقصان، سواء لجهة استعداده لتحقيق رزمة من الإصلاحات السياسية، أم لناحية نبذه العنف انطلاقاً من أن خلاص سورية من الوضع الذي تمر فيه يكون بالإصلاح ومحاسبة الذين تسببوا بسقوط الضحايا من مدنيين وعسكريين، فإن بعض الأطراف في الأكثرية الجديدة لا يروق له هذا التمايز الذي تتسم به مواقف جنبلاط، سواء كانت عربية أم محلية. لكن جنبلاط، الذي غادر أمس الى تركيا يرافقه وزير الأشغال غازي العريضي، للقاء كبار المسؤولين في زيارة مقررة قبل أن يتفاقم الوضع في سورية، يرفض الدخول في سجال مع هذا الطرف أو ذاك من دون أن يتنازل عن قناعاته أو يسمح لأحد بالتعامل معه على أنه «في جيبه» ويمون عليه في اتخاذ المواقف التي تخدم سياسته في لبنان. كما أن الموقف السوري من جنبلاط لا يزال تحت سقف العتب واللوم ولم يبلغ مرحلة القطيعة السياسية كما يحلو للبعض في لبنان أن يشيع في حلقاته الضيقة، إلا إذا كانت لهذا البعض معطيات أخرى لم تصل بعد الى مسامع رئيس «التقدمي» الذي يصر على نبذ الفتنة في سورية والحفاظ على الاستقرار فيها، تماماً كما يتصرف في لبنان في سعيه الدؤوب لوأد الفتنة المذهبية وفي دعوته الى استئناف الحوار، باعتبار أن التواصل بين الأطراف ضروري، خصوصاً بين زعيم تيار «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من ناحية، ورئيس المجلس النيابي نبيه بري والأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله من ناحية ثانية. وفي السياق، يقف جنبلاط، كما هو معروف عنه، ضد القطيعة بين الحريري والقوتين الشيعيتين، ويعتبر أن هناك ضرورة للعودة الى طاولة الحوار، ليس لتنفيس الاحتقان المذهبي وخفض منسوب التوتر السياسي فحسب، وإنما لتحصين الساحة الداخلية وصونها من الارتدادات السلبية المترتبة على تأزم المنطقة. ولا يُخفي جنبلاط تواصله المباشر مع الحريري حيناً أو من خلال بعض القياديين في «التقدمي» و «المستقبل» أحياناً، وبالتالي يرفض أن يبقى هذا التواصل قيد الكتمان فيما لم ينقطع عن تواصله مع بري وقيادة «حزب الله»، لأن من يدعو الى الحوار لا يسمح لنفسه بأن يدير ظهره لهذا الطرف أو ذاك، خصوصاً أنه بموقفه هذا يتيح لنفسه القدرة على التحرك لقطع الطريق على أي احتكاك بين أطراف النزاع يمكن أن يتطور الى صدام في ظل القطيعة القائمة بينهم. لذلك، فإن ترويج البعض في الأكثرية أن القطيعة بين جنبلاط والقيادة السورية حاصلة لا محال، يبقى في إطار «تمنيات» هذا الطرف، إلا إذا ثبت في الأيام المقبلة أن المآخذ السورية عليه دفعت باتجاه تجميد التواصل بينهما. كما أن جنبلاط، الذي يكاد يكون الوحيد بين حلفائه الذي يتصرف على أنه يقف في «الوسط» في الانقسام الحاد بين أطراف الصراع، لا يُبدي أي استعداد للانتقال نهائياً الى جانب هذا الطرف أو ذاك، ويفضل البقاء في منتصف الطريق ليكون في وسعه القيام بدور الإطفائي في حال اقترب الصراع السياسي من حافة الهاوية. حتى أن مصادر سياسية مواكبة لمواقف جنبلاط تعتقد بأن التحريض عليه لا يعود الى موقفه من التطورات المتسارعة في سورية، فيما يعجز هذا المحرض أو ذاك عن تقليده في دعوته الى نبذ العنف وتحقيق الإصلاح كمدخل للحفاظ على الاستقرار في سورية، وإنما الى شعور الفريق الذي يحرض بأنه أخطأ في تقديراته للمواقف التي سيتخذها من النزاعات الداخلية وكان يظن بأن انعطافه السياسي لمنع الفتنة سيجعل من رئيس التقدمي ملحقاً به أو تابعاً له، وهذا ما أشار إليه أخيراً وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي في تأكيده أن جنبلاط لم يكن تابعاً لأحد عندما كان في قوى 14 آذار، وبالتالي لن يكون تابعاً لأحد في الأكثرية الجديدة. ويبدو أن كلام العريضي أزعج البعض في الأكثرية، خصوصاً عندما تناول الاتصال الذي جرى أخيراً بين جنبلاط والحريري، بقوله إن هذا الاتصال حصل، شاء من شاء وأبى من أبى. كما انزعج هذا البعض من دعوة وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور الى التعاطي بجدية مع المحكمة الدولية. وتؤكد المصادر نفسها أن جنبلاط لم يفاجئ البعض في الأكثرية بمواقفه الأخيرة، وتضيف أنه وعدداً من وزرائه، على تواصل مع أبرز القيادات في الأكثرية التي هي في صورة الملاحظات والمآخذ التي يبديها من حين الى آخر، لا سيما أنها لا تتعلق بفريق دون الآخر، وكان سبق له أن توجه باللوم الى زعيم «المستقبل» على خلفية موقفه من الحوار مع بري ونصرالله. وتتابع هذه المصادر أن البعض يتصرف مع جنبلاط وكأنه يجهله تماماً، وبالتالي يفاجأ عندما يصر على مصارحة الجميع في زمن الصمت المحفوف بالمخاطر على البلد. وتسأل: «أين أخطأ عندما ردَّ على التأخر في تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي محذِّراً من أن الأكثرية عاجزة عن إزالة العقبات التي تؤخر ولادتها؟». كما تسأل أيضاً عن الخطأ الذي ارتكبه جنبلاط بتحذيره من سياسة الكيدية والتشفي في رد غير مباشر على رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، الذي لم ينفك من المطالبة بإقصاء المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي ورئيس فرع المعلومات في قوى الأمن العقيد وسام الحسن. وتنقل المصادر عن جنبلاط قوله في مجالسه الخاصة، أنه ضد استهداف الطائفة السنية وضد التعامل مع أبرز رموزها في الإدارات الرسمية على أساس التشفي والكيدية، معتبراً أن من يصر على ممارستها يقدم هدية مجانية الى الحريري ويضعف موقع رئيس الحكومة بدلاً من تقويته في داخل طائفته. وتضيف أن جنبلاط لم يخرج عن خياره في تبريره للخروج من قوى 14 آذار عندما شدد على التحالف مع سورية وحماية المقاومة في لبنان، لكنه ليس من الذين يبدون أي استعداد لخوض معارك مجانية ضد الحريري بالنيابة عن بعض الأطراف في الأكثرية ولمصلحتهم. وتسأل هذه المصادر عن الخطأ الذي ارتكبه جنبلاط حتى يبادر البعض في الأكثرية الى الترويج بأنه يستعد للانقلاب عليها، لا سيما أنه مع سحب الحديث عن سلاح «حزب الله» من التداول، باعتبار أن التركيز عليه في الوقت الحاضر يساهم في تعميق الانقسام، مع تمييزه بين سلاح المقاومة في مواجهة إسرائيل وأي سلاح آخر يمكن أن يستخدَم في الداخل أو حتى في التلويح به كمادة للاستقواء بها على الآخر في الاختلاف السياسي. وعليه، فإن لتمايز جنبلاط عن بعض حلفائه في الأكثرية «نكهة خاصة»، وإن عدم اعترافهم بها يدفع باتجاه اهتزاز هذه العلاقة بسبب عدم قدرتهم على «تذويبه» بالكامل في هذه الأكثرية وإلغاء خصوصيته التي حرص عليها ودافع عنها طوال وجوده قوة رئيسة في الأكثرية السابقة. كما أن البعض في هذه الأكثرية، وفق المصادر المواكبة، سيكتشف عاجلاً أو آجلاً أن جنبلاط لن يتناغم معها كلياً في الموقف من استئناف الحوار بمن حضر وفي ظل غياب قوة رئيسة ممثلة ب «المستقبل». ويتذرع جنبلاط في الدفاع عن موقفه بأن لا قيمة لأي حوار يدور بين أهل «البيت الواحد»، وأن لا مصلحة لمعاودته في غياب الحريري «وإلاّ نكون جعلنا منه مادة نزاعية، وهذا ما لا نريده. وبالتالي، من الأفضل أن نبقي عليه ورقة لطمأنة اللبنانيين وأنه سيحصل عندما تنضج الظروف». كما انها ستكتشف مع الوقت أن جنبلاط، في ظل الأجواء السياسية السائدة، لن يكون رأس حربة في الدفاع عن جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس اعتماد النظام النسبي أو تقسيمه الى 9 دوائر انتخابية بهدف تمرير النسبية. وفي هذا المجال، تؤكد مصادر في «التقدمي» ل «الحياة»، أن جنبلاط يدعم من دون أي تردد إصلاح قانون الانتخابات، لكنه ضد تجويفه من مضامينه الإصلاحية في الإصرار على اعتماد النظام النسبي الذي لا يمكن وضعه موضع التنفيذ ما لم يتم تنوير الرأي العام وتثقيفه وصولاً الى تدريبه على النسبية، لتفادي حصول خلل في التمثيل الطائفي طالما أننا لم ننتقل حتى الآن الى مرحلة إلغائه ولو بالتدرج. وتضيف أن الشرط الوحيد للوصول الى قانون انتخاب جديد يكمن في عدم الإسراع في حرق المراحل، أو في استخدام النسبية كمادة للاستقواء بها على أي فريق لبناني أو طائفة معينة، وهذا لن يتحقق حاضراً، ما يعني أن القانون الحالي يبقى الأفضل الى حين تثقيف النفوس لتصبح قابلة لاستيعابه بدلاً من النصوص التي لن تخدم الإصلاح المنشود من قانون الانتخاب. قد تكون هذه عينة من التباين في وجهات النظر، تدفع بجنبلاط الى عدم التفريط بخصوصيته في ظل احتدام الصراع الذي يتسم بطابع طائفي من جهة والى التحذير من مفاعيله السلبية على الوضع في البلد من جهة ثانية، علماً أن بعض ما يقوله جنبلاط يصب في مصلحة معظم حلفائه في الأكثرية، إلا إذا اعتبر هؤلاء أن وجهة نظره ما هي إلا مؤشر على بداية استدارته الى الضفة الأخرى. لذلك، فإن إصرار البعض في الأكثرية على التشكيك بمواقف جنبلاط مستخدماً الغمز قد يتجاوز ما هو ظاهر الى العلن، نتيجةَ التباين في وجهات النظر الى إشكالات من نوع آخر وصلت أخيراً في قضاء عاليه وتم تطويقها قبل أن تتفاعل إعلامياً وسياسياً، إضافة الى قراءته الخاصة لما يجري في سورية والتي قوبلت بتغييب كامل من حلفاء له يملكون وسائل إعلام مرئية ومسموعة.