ترفض مصادر قيادية في «تيار المستقبل» أن تضيف أي كلمة، ولو من باب التوضيح أو تسليط الأضواء، على ما قصده رئيس الحكومة سعد الحريري بقوله: «أنا لا أضيع الوقت ولا أتأخر، بل أعتبر ان الآخرين الذين يتهمونني بتضييع الوقت هم الذين يجب عليهم ان يقوموا ببعض الأمور، وهم يعرفون أنفسهم ولم يقوموا بما عليهم بعد»... وتعتبر ان الجواب على السؤال يحمل رداً كافياً، وان لا حاجة للتذكير بأن الحريري قطع منتصف الطريق لملاقاة الفريق الآخر، الذي بدلاً من ان يتقدم باتجاهه لإنتاج تسوية شاملة للأزمة اللبنانية، راح يتبع سياسة «خذ وطالب»، على رغم انه يدرك ان ترسيخ الاستقرار الأمني والسياسي يقع على عاتق الجميع من دون استثناء، انسجاماً مع مبدأ الشراكة في تحمُّل المسؤولية بصرف النظر عن الموقع السياسي الذي يشغله هذا الفريق أو ذاك... وتؤكد المصادر نفسها ان الحريري قرر منذ فترة ان يعضَّ على الجرح التزاماً بمبدأ ان دم والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري لن يكون مسبباً للفتنة أو لتعميق الانقسام الحاد بين اللبنانيين، وانه اتخذ قراره في هذا الشأن عن قناعة تدفعه من حين الى آخر الى التأكيد انه لن يتوانى عن تقديم التضحيات لحماية السلم الأهلي والحفاظ على الاستقرار العام. وتضيف المصادر عينها ان الحريري لم يطلب ثمناً من أحد، وان كل ما يتوخاه من الآخرين ان تتضافر الجهود للانتقال بالبلد الى مرحلة سياسية جديدة لا مكان فيها للتجاذبات ولا لتبادل الاتهامات والتهديدات التي وصلت أخيراً الى حد التهويل والتلويح باستخدام العنف من قبل أطراف محليين غير أساسيين ولا دور لهم في التسوية التي تأخذ في الاعتبار استيعاب التداعيات السياسية للقرار الظني في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق وتطويق ارتداداته على الوضع الداخلي لمصلحة تثبيت السلم الأهلي ومنع لبنان من العودة الى الوراء على رغم كل ما يعانيه حالياً من شلل للمؤسسات الدستورية يتمثل في تجميد اجتماعات مجلس الوزراء وفي تعليق جلسات الحوار الوطني، ومن اصرار البعض في المعارضة سابقاً على ان لبنان يقف على مقربة من اعادة تركيب السلطة فيه من دون أن يفصح عن مقاصده من وراء ترويجه لهذه المقولة. وبكلام آخر، تقول المصادر ان الحريري ليس من الذين يطلبون اثماناً سياسية لنفسه أو لعائلته أو للتيار السياسي الذي يتزعّمه، وان كان من ثمن فلا بد من أن يدفع من أجل صون الوحدة الوطنية وحماية الاستقرار الداخلي ليكون في وسع البلد مواجهة التحديات الخارجية المترتبة على تعنت اسرائيل واصرارها على اجهاض جهود المجتمع الدولي الرامية الى تحقيق السلام العادل في المنطقة على قاعدة منع الأطراف المتضررين من التسلل الى النسيج اللبناني وتهديد التوازن الداخلي القائم على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وتعتقد بأن الحريري ضد أي معادلة سياسية تقوم على أن هذا الطرف يجب أن يعطي وان الآخر يجب أن يأخذ، وهو لهذا السبب يركز على ان التضحيات مطلوبة وان التنازلات يفترض ان تكون مشتركة لانتاج تسوية سياسية قابلة للحياة، بدلاً من ابقاء البلد، ومن خلاله اللبنانيين، تحت رحمة التفاهم على هدنة هشة أو اشعار طرف بأنه مهزوم بالمعنى السياسي للكلمة... فلبنان، بحسب المصادر، لا يقوم على صيغة غالب ومغلوب، أو على معادلة ان فريقاً يخطئ باستمرار وان الآخر معصوم عن الخطأ، وان الظروف مواتية لإنضاج تسوية متوازنة، هذا في حال قرر الجميع ان يسلِّم بأن الحال الراهنة لم تعد تطاق وان الإحباط يعم الشارع اللبناني وان اليأس من الطبقة السياسية بلغ ذروته. وترى المصادر ان لا قيمة لتسوية ما لم تأخذ في الاعتبار ان المؤسسات الدستورية والإدارات العامة في حاجة الى تفعيل ليشعر الجميع بأن هناك من يلتفت الى مشكلاتهم ويسعى لإيجاد الحلول لها، مشيرة الى انه لا يكفي القول بأن الفتنة المذهبية في البلد مستبعدة طالما ان هناك الرؤساء العماد ميشال سليمان ونبيه بري والأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله ورئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط وآخرين. وفي هذا السياق سألت مصادر أخرى كيف يترجم هذا الكلام ما لم يقترن ولو لمرة وحيدة وبصورة استثنائية بالأفعال، باعتبار ان الوعود لم تعد كافية وان اطلاق النيات الحسنة من حين الى آخر لا يرضي اللبنانيين الذين لا يطلبون من قياداتهم المستحيل بمقدار ما انهم يسألونهم عمّا هو العمل لتبديد الهواجس والمخاوف في ظل انعدام الاستقرار على المستويات كافة؟ وما الطريق لفرض اجراءات عملية تسحب الاحتقان من الشارع في ظل تضاؤل الآمال المعقودة على تفعيل مشروع الدولة الحاضنة للجميع؟ خصوصاً مع ادعاء البعض ان لا خوف من الصدام الذي لن يأخذ طابعاً مذهبياً وطائفياً، وانه سيؤدي الى تحقيق الإصلاح والتغيير. كما سألت المصادر عن موقع مشروع الدولة وكيفية حمايته طالما ان البعض يمعن في إلغاء الدولة وتفكيك مؤسساتها ظناً منه بأنها توصله الى السلطة على حصان أبيض، وان هناك ضرورة لنبش دفاتر تعتبر من الماضي ولا مصلحة لأحد في اعادة فتحها؟ لا سيما ان هناك من يراهن على ان إقحام البلد في خلط أوراق جديد يعطيه فرصة للوصول الى موقع سياسي متقدم، مع ان الاستقرار وحده يحمي البلد ومن خلاله المقاومة، وذلك في اشارة الى مواقف زعيم «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون الذي يؤخذ عليه من قبل بعض حلفائه ان مغالاته في طرح مطالبه لن تبدّل من واقع الحال في البلد، باعتبار ان لا قيمة لأي تسوية سياسية ان لم يكن الحريري على رأس الحكومة، وهذا باعتراف معظم أهل بيته في قوى 8 آذار، ناهيك بالموقف السوري الداعم لهذا الطرح. وأكدت المصادر ان السؤال عن مشروع التسوية التي يتطلع اليها جميع الأطراف في الداخل يستدعي أولاً صرف النظر عن مطالبة البعض بإعادة انتاج السلطة في لبنان على قاعدة ان هناك معادلة جديدة تأخذ بالاعتبار موازين القوى المستجدة بعد خروج جنبلاط من الأكثرية. وبالتالي حصر الجهود في اعادة الاعتبار لاتفاق الطائف الذي يعتبر الناظم للعلاقات اللبنانية - اللبنانية والحامي للصلاحيات المناطة بالمؤسسات الدستورية. ولفتت أيضاً الى ان الحديث عن العناوين الرئيسة لمشروع التسوية الداخلية لا يلغي أبداً السؤال عن مصير قرارات مؤتمر الحوار الوطني الأول المنعقد في آذار (مارس) 2006 برعاية الرئيس بري، خصوصاً أن الاستقواء بالتعديل الذي طرأ على موازين القوى يجرّ البلد الى مسلسل جديد من الفوضى السياسية المفتوحة على تهديد الاستقرار والتلاعب بمقومات السلم الأهلي. وقالت هذه المصادر ان معظم الأطراف لم ينفكّوا منذ أكثر من شهرين عن الحديث عن التهدئة ونبذ الفتنة وعن ضرورة التزام القوى الرئيسة بموجباتها لكنهم لم يجرؤوا حتى الآن على ان يقولوا ماذا يريدون وأين الطريق للوصول الى التسوية ومحاصرة الفتنة. بل ان تركيزهم في مواقفهم يتمحور حول ما هو المطلوب من رئيس مجلس الوزراء سواء بالنسبة الى شهود الزور، وهو كان قال كلمته فيه، أم الى القرار الظني الذي سيصدر عن المحكمة الدولية على رغم انه لم يترك مناسبة إلا وأكد فيها ان دم والده لن يكون مسبباً للفتنة... فرئيس الحكومة، كما تقول هذه المصادر، لم يطلب تطمينات شخصية لنفسه وانما يسأل عن الضمانات للتوافق على تسوية مرضية للجميع وتؤمن شبكة الأمان للاستقرار وتضمن في الوقت نفسه الانتقال بالبلد الى مرحلة جديدة عمودها الفقري فتح صفحة جديدة مع سورية بدلاً من اصرار البعض في الداخل على فتح الصفحة القديمة على مصراعيها. لذلك لم يقرر الحريري، بحسب المصادر، التوجه الى دمشق في كانون الأول (ديسمبر) الماضي إلا لقناعته بأن توفير الاستقرار في الداخل لا يُصرف في أي مكان ما لم يبادر الى طي صفحة الماضي مع الرئيس السوري بشار الأسد والوصول الى استقرار في العلاقة بين البلدين تقوم على خدمة المصالح المشتركة لهذين البلدين والشعبين، ولهذا السبب اتخذ قراراً شجاعاً كان في محله وأحدث صدمة بين محازبيه وداخل «تيار المستقبل» لكنه نجح في الإمساك بزمام المبادرة من دون ان يكون لها ارتدادات سلبية على تواصله مع القيادة السورية. فالحريري لم يذهب الى دمشق للاستقواء على هذا الفريق أو العمل لإلغاء الآخر، وانما ليقينه بأنه يسلك خريطة الطريق لتحقيق الاستقرار وحمايته بإعادة العافية الى العلاقة بين البلدين، وليس للحصول على مطالب خاصة من شأنها ان «تقوي» موقعه في المعادلة الداخلية، وهذا كان موضع تساؤل من قبل بعض القوى في 8 آذار التي هللت لانفتاحه على سورية ثم عادت الى ضبط أنفاسها ظناً منها بأن المساحة السياسية التي كانت «ممنوحة» لها في ظل القطيعة بين الحريري ودمشق لا بد من ان تضيق رقعتها. وعليه، فإن المواكبة اللبنانية للمشاورات الجارية بين سورية والمملكة العربية السعودية أصبحت ضرورة لأن البلدين لن ينوبا عن اللبنانيين في الاتفاق على العناوين الرئيسة لمشروع التسوية، وهذا يستدعي من القيادات الفاعلة الانتقال من مرحلة تبادل النيات الحسنة، وغالباً «الاتهامات»، الى مرحلة الدخول في مصارحة في العمق من دون تردد، شرط أن تقرر اعتماد خطاب سياسي واحد يبعث على التفاؤل ويوفر الضمانات للبنانيين بدلاً من أن نضع البلد على لائحة الانتظار. وكأن الجميع في حال قطيعة.