بعد نصف سنة وأسبوع على إطاحته، اقتيد الرئيس المصري السابق حسني مبارك الى قفص الاتهام، ولو على سرير. ذهوله في اللحظات الأولى التي لم تخفِ مشاعر الإذلال لهيبته ولنجليه علاء وجمال اللذين شاركاه القفص، بعضٌ من حال الذهول في العالم العربي لمآل الثورات والانتفاضات والقتل اليومي الذي يأبى أن يغادر مدن الشجعان المحاصرة بالدبابات والصواريخ... بترسانات المكابرين المتغطرسين الذين لا يرون وسيلة للخلاص من دماء الشهداء إلا بمزيد من الخراب وسفك الدم. حين اقتيد مبارك الى قفص الاتهام أمس تطوّع الوزير الإسرائيلي السابق بنيامين بن أليعازر في شهادة من بعيد، ليدافع عن «وطنية» الرئيس السابق الذي رفض قبل إطاحته عرضاً من نتانياهو لتلقي علاج إسرائيلي. وهي شهادة لا تشي إلا بمحاولة للتأثير في الرأي العام المصري، وتغليب منطق الثأر على مفاهيم العدالة، في ظل غليان الشارع الذي انتظر محاكمة مبارك ستة شهور، هيمن فيها هاجس التواطؤ لدى جهات ما، لتخليص الرئيس السابق من قبضة الحساب. ما بدأ أمس هو أول فصول العدالة الجنائية، بعدما انتهت المحاسبة السياسية بحكمٍ من الثوار قضى بإزاحة مَن باشر عهده قبل ثلاثة عقود بصورة «بطل»، وانتهى بصورة الحاكم «القاتل والفاسد». وإن تكن تلك رؤية الثوار والمدّعين، فإلى مشهد مبارك على السرير، في قفص الاتهام، كان مشهد الدبابات السورية في حماة وهي تكثّف القصف على منازل السكان، يُكمل الوجه الآخر من ملحمة الثورات العربية في مخاضها العسير. حاكم عربي تُتلى عليه لوائح الاتهام، وآخر لا يرى ولا يسمع، «إما أنا وإما لا أحد»... صدام حسين حوكم تحت حِراب الأميركيين، مبارك أمام محكمة وطنية... وللمحكمة الجنائية الدولية، العقيد القذافي مطلوب بعد البشير، وهو بالتأكيد يفضل استكمال المذبحة الكبرى في ليبيا، على إذلاله في قفص، ولو أُعِدّ للرؤساء فقط. لمبارك امتياز مواجهة العدالة غير الأجنبية. له أن يطمئنّ الى استبعاد التدخلات، وإن كانت طبيعة الاتهامات تقود الى مصير واحد. وعشية المحاكمة في أكاديمية الشرطة، كانت الرسالة المريبة التي لا تقل خبثاً عن عرض «العلاج» الإسرائيلي، بيان تنظيم «القاعدة في شبه جزيرة سيناء» الذي يقصف بمشروع «الإمارة الإسلامية» وحدة مصر، ويرمي مزيداً من الشبهات حول طموحات الإسلاميين، خصوصاً أولئك المتهمين بركوب الثورة. ولا يُستثنى المجلس العسكري كهدف محتمل لبيان يسعى الى نعي كل محاولات إعادة الاستقرار التي تمهد لنقل البلد من مرحلة الشرعية الثورية الى الشرعية المنتخبة. ... مبارك في القفص، مصر كلها ما زالت في مخاض الثورة. وبصرف النظر عن إنكاره التورط بإعطاء أوامر لقتل المتظاهرين الثوار، ستبقى عيون أنصار العدالة على القفص. فالخشية أن ينجح في زرع مزيد من الأحقاد بين المصريين، ويؤجج الصراع بين الثورة و «طبقة» المنتفعين من النظام السابق الذين يشككون بالقضاء لنسف حياده القانوني، مستغلين تهمة انجراف الثوار الى غضب الثأر. مبارك في القفص، مشهد من دراما تاريخية في أرض الكنانة. وإن كان معظم المصريين والعرب لا يرون وجهاً للمفاضلة بين إذلال رئيس وإذلال شعب، فالوجه الآخر للدراما في عواصم قريبة، وبين الرؤساء هناك مَن لا يرى للخوف من القصاص والحساب مخرجاً، سوى مزيد من الدم والرعب. بين مشهد صدام حسين خارجاً من حفرة في مخبئه، ومشهد مبارك على سريره في المحكمة، فصول من عبث الرؤساء الأباطرة الذين اغتالوا عشرات السنين من تاريخ العرب.