«بعض ممّا قاله اللّيل: حوارية بين يزيد بن طلحة العبدي وامرئ القيس الكندي»، مسرحية متخيّلة صدرت عن دار أزمنة للنشر والتوزيع بالأردن 2011 للروائي السعودي مظاهر اللّاجامي، فبعد روايته «بين علامتي تنصيص» 2007 و»الدّكة» 2008 يتحوّل اللّاجامي من الصالون السردي لخشبة المسرح في محاولة جادة باتجاه إيقاظ شخوصه التمثيلية في منطقة أخرى ربما ضاق بها فضاء السرد واتّسع لها فضاء المسرح الذي يعده النقاد والمؤرخون أبو الفنون جيعاً. المسرحية التي جاءت في فصلين بزمانين ومكانين رغم اختلافهما، لكنهما متطابقان جداً، كانت تراوح بين عالمين: حقيقي ومتخيّل، ولم يتحرّك في فضائهما السيموغرافي غير ثلاثة شخوص: امرؤ القيس (الشاعر الجاهلي) ويزيد بن طلحة العبدي (شاعر متخيّل) والنادل (الشخصية الثانوية الافتراضية). ولأن امرأ القيس هو الشخصية التاريخية الحقيقية الوحيدة في كل حواريات المسرحية القصيرة جداً، حيث لم تتجاوز الثلاثة والخمسين صفحة من القطع الوسط، نجده يحضر في توصيف اللّاجامي لشخصيته بنسب تاريخي تتكئ على المرويات الموثّقة عنه والمرفوعة له بسند روائي صحيح، بينما يرسم ليزيد بن طلحة العبدي عوالم من الميثيولوجيا الأسطورية في نسبه لأبيه وأمه وما لهما من علائق فانتازية بالجن والحوريات والمخيال الروائي الشعري (الشعبي)، وكأن اللّاجامي –هنا- أراد أن ينشئ حواراً يجعل فيه الحقيقي مقابلاً للخيالي، والعقل مقابلاً للوهم، والمادي مقابلاً للروحي في مسرحية تبحث عن الوطن عبر المرأة/الحبيبة التي هي كما سمّاها شاعره المتخيّل يزيد بن طلحة العبدي «الوطن والغربة معاً». وكعتبة نصية من الممكن الولوج للنص من خلالها نواجه لوحة الغلاف (عناق) للفنان البولندي تجيسلاف بيشينيسكي التي تعبّر عن جسدين شبيهين بهيكلين عظميين يدخلان في عناق كبير من الجوع والعطش والخوف في صحراء قاحلة! وهنا نلامس مدخلية واضحة يعبر فيها اللاجامي عبر اختياره للوحة عن هذا الالتصاق الحميمي بين شخصيتيه (الحقيقية والمتخيّلة) في وطن جائع وضائع جداً! ورغم أن الفضاء المسرحي لم يتعدّ في تكوينه السيموجرافي حانة قصيّة مسكونة بفصل الخريف وبأحلامه لكنها اتّسعت للصحراء ولمحطات وأمكنة وشخوص أتت لتؤثث عوالم الحوار المسرحي بالرموز التاريخية التي لربما ستحيل القارئ للبحث عنها والتقصي لها ليكتشف أن الكثير منها لا يمتّ للواقع التاريخي بصلة، إذ إنها لم ترد أبداً إلا في «بعض مما قاله اللّيل»! هكذا نواجه من جديد الوطن عبر ما هو حقيقي فيه، وما هو خيالي عارض عليه في علقمة المخبول ودارة جلجل وفاتنات بني تميم وصبايا عبد قيس وعنيزة وفاطمة وسيزيف ونرسيس وزينب وعرش بلقيس ومريم وبني أسد وليلى وزهراء ودمّون وأميرات الجن وحوريات البحر وبلد الخمر والنصيرات والصايغ وغيرها الكثير من الأمكنة والأسماء التي اختلطت بين الواقعي والخيالي لدرجة تفقد القارئ وعيه تجاه ما هو الحقيقي منها؟! لكنّ اللّاجامي يستمر في مسرحيته وفي حواره الهاذي ذاهباً بقصديّة كبيرة ناحية هذا التأسيس لفضاء متخيّل يقف على فضاء حقيقي للوطن! استعانت الحوارات المسرحية بذاكرة الشعراء وبإرثهم الشعري، فكان اللاجامي يستنطق تجربتهما (الحقيقية والمتخيّلة) مسرحاً وسرداً حوارياً فيه ما فيه من خفة الحانة وجنون المنادمة ومن تداعٍ للأفكار وهلوسات غير مترابطة، فكلا الشاعرين يغني على ليلاه بطريقته، لكنهما يلتقيان معاً في تفاصيل الوطن حين يختصراه في المرأة/ الحبيبة! ورغم انحياز اللاجامي الواضح لامرئ القيس من أول صفحة من صفحات الكتاب حين يهديه مسرحيته، بيد أنه يتفلّت –أحياناً- من هذا الانحياز الشعري ليجد نفسه متمثّلاً في روح الشاعر يزيد بن طلحة العبدي ومرتدياً زيّه وقناعه ليردد على لسانه شعراً بروح نزارية فاقعة من إنشائه وابتكاره يستحضر فيه ذاكرة المكان المعاصرة وتفاصيل الهم اليومي! ولا يقف (اللاجامي/ يزيد بن طلحة العبدي) عند الروح النزارية التي يتمثّلها هنا كحالة من الجنون اللغوي والتصعلك الشعري، لكنه يذهب بعيداً ناحية الدلالات الشعرية الوجودية للوطن والمرأة والمسميّات التي تطوّق المعنى وتجيره لصالح جهة شعرية ما! وهنا نستحضر نزار قباني من جديد حين قال: «أسخف ما نحمل يا سيدي الأسماء»، لكنه يستجلب النزارية هذه المرة على لسان امرئ القيس حين يقول راداً على يزيد بن طلحة: «الأسماء لغة لا يفهمها إلا الأغبياء...»، ويستمر الحوار ليتلقف يزيد بن طلحة ذات العبارة ويزيد عليها قائلاً: «دعنا من الأسماء، فالأسماء لغة لا يفهمها إلا الأغبياء والمشهون والحمقى...». كانت الأسماء لعبة اللغة في ابتكار الموت للوطن عبر عوالمها ومن خلال تفاصيل وجودها، وعبر ما هو شعري وما هو مسرحي وما هو روائي. حاول اللّاجامي أن يرتهن للخيال في رسم تفاصيل الوطن/المرأة الذي يبدأ بالماء لينتهي بالتابوت حين يقول على لسان يزيد العبدي: «أ زهرة أنت؟ أم شلال زهرات؟!» ثم يقول: «أ زهرة أنت؟ أم تابوت زهرات؟!». هذه النهايات يواجه بها اللاجامي/ العبدي امرأ القيس في نهاية المشهد الأخير من المسرحية متمنياً عليه وعليها بحرقة أن ينتهي كل شيء في الوطن: «ألا ليت كل مؤجل يموت، ألا ليت كل حروفك تموت، ألا ليت كل طرقاتك تموت، ألا ليت كل زواياك تموت، ألا ليت كل زواياها تموت، ألا ليت كل زوايانا تموت، ألا ليت كل زواياكما تموت، ألا ليت كل زواياهما تموت، ألا ليت كل زواياكنّ تموت، ألا ليت كل زواياي تموت». «بعض مما قاله الليل» مسرحية تخولق نفسها من رحم التاريخ الشعري، لكنها تتوسّل الواقع المحرّم وترتدي أقنعته في محاولة للهروب من سطوة اليومي والسياسي والاجتماعي، طلباً للفكاك من ربقة الخناق الذي يمارس على المبدع بشكل تلقائي أحياناً وبشكل متعمّد في أحايين أخرى! لهذا يقيم اللاجامي معيار كتابه الجديد بعيداً عن واقعية السرد الماركيزي السحري أو فانتازية تولكين الماورائية على خشبة مسرحية لطالما حملت الكثير من الرموز وشفّرت العديد من القضايا دون أن يلتفت لها الرقيب الذي قد تأخذه دهشة الفرجة فتفلت من قبضته آلام الوطن وبوحه. ختاماً، لابدّ من الإشارة لقراءة المسرحي السعودي عبد الله الجفال ل «بعض مما قاله الليل» حين قال: «نص جاء بلغة سامية جداً، استعار (اللاجامي) مفرداته الخاصة من واقع عصره ومزج حواراته بين الشعر والنثر ليغوص عميقاً في البيئة الجاهلية كي يلامس تمرد الصعاليك في تاريخهم. ولقد لمست مقاربة للواقع الحقيقي بعقدة نصية مبنية على المزج ما بين التاريخي والفنتازي. لكن مثل هذا النص سيواجه صعوبة إخراجية عند تحويله لعرض مسرحي لاعتماده على جمل طويلة جداً واقتصاره على بيئات بصرية محدودة قوامها الحانة والصحراء والمقبرة، وسيحتاج لممثل نوعي ينتمي لمناخ اللغة ذاتها بكل سموها، وستحتاج لمخرج ينشئ الكثير من الأحداث لتحويلها لمناخ مسرحي ضمن موضحات إخراجية تتصل بالعمل وبمسمياته». * شاعر سعودي