تحصد الشعوب العربية نتائج ما زرعته الأنظمة التي تواجه الانتفاضات على مدى العقود الماضية، فعلى رغم الدماء التي تسيل في الشوارع العربية نتيجةَ المواجهات بين أجهزة القمع ومطالب المحتجّين، لا تزال الانظمة قادرة على الوقوف على رجليها ولو بشقّ النفس. الخوف من البديل هو «البعبع» الذي يخيف بعض المعارضين في الداخل ومعظم المدافعين عن مطالب التغيير الديموقراطي في الخارج. الانظمة تعتمد على تفكّك المجتمعات العربية الى عصبيات وطوائف وقبائل، ولا يتحمل مسؤولية هذا التفكك سوى النظام العربي القديم الذي تحاول الانتفاضات ان تبني شيئاً ايجابياً على أشلائه، فهذا النظام لا يرى ما هو سلبي في هذا التفكك والتبعثر المجتمعي. على العكس، بات هذا هو السبب الاساسي، ان لم يكن الوحيد، الذي يطيل عمر الانظمة المتهالكة. من شوارع سورية الى ليبيا، مروراً بمصر واليمن، لا شيء يقف في طريق سقوط الانظمة التي انتهت صلاحيتها سوى تفكك المعارضات وغياب بدائل سياسية تسمح بالانتقال من حال الفوضى التي يتخوف منها الجميع، الى حال من الاستقرار المنظّم، يمكن ان يكون مدخلاً الى نظام جديد. ومن الذي ترك وراءه هذه الحالة من التبعثر الداخلي المقصود سوى الانظمة المتعاقبة في هذه الدول التي نتحدث عنها، خلال السنوات الاربعين الماضية؟ لم يكن القمع هو السلاح الوحيد الذي استُخدم في وجه قيام حركات معارضة قابلة للوقوف على قدميها، وبالتالي لتكون بدائل صالحة للاستعمال في يوم من الايام، بل ساهمت تغذية الولاءات الطائفية والعشائرية والمصلحية الى حد كبير، في انهيار التماسك الاجتماعي، فصار المجتمع منقسماً عمودياً. وها نحن اليوم نرى النتيجة الطبيعية لهذا الانقسام متمثلة في المخاوف على وحدة المجتمعات من الحروب الاهلية في ما لو انتصرت هذه التحركات المعارضة وسقطت الانظمة. بعبارة اوضح: صار القمع الذي يمارسه النظام في هذه البلدان هو مرادف الاستقرار، بينما صار قيام الحالة الديموقراطية مرادفاً للمذابح الطائفية. حتى في تونس ومصر، حيث سقط الحاكمان السابقان بن علي وحسني مبارك، تبدو عناصر التمزق الداخلي والخوف من البدائل هي الطاغية على المشهد السياسي. من هنا حالة القلق السائدة في البلدين حيال المرحلة المقبلة، والتخوف من الفوضى التي يمكن ان تقود اليها تحت ضغط شارع لا تلتقي احتجاجاته الا عند نقطة واحدة هي معارضة الحكم السابق. اما الاتفاق على المخرج او البديل، فهو في علم الغيب. انه المشهد الذي بات واضحاً من خلال الاحتجاجات المستمرة في ميدان التحرير بالقاهرة، والتي تهتف كل اسبوع ضد ضحية جديدة. سورية وليبيا واليمن أمثلة على قدرة النظام في البلدان الثلاثة على استغلال التفكك الداخلي في سبيل توفير جرعة اضافية من الحياة له. ما هو بديلكم؟ يسأل الحكام معارضيهم والمطالبين بالتغيير. رغم ان المسؤولية عن غياب البدائل تقع في الدرجة الاولى على أساليب حكم اكتسبت خبرة مديدة في قمع كل صوت معارض وفي تفكيك كل مؤسسة موحدة، كي تبقى مؤسسات النظام هي الوحيدة المتماسكة والقادرة على الإمساك بأي شيء. كل «الاسلحة» استخدمت: من تعزيز الهوية الطائفية والفئوية للنظام، الى كسب الولاءات بوسائل الفائدة المصلحية حيث تنفع، او بوسائل القمع حيث لا يجدي التكسّب المادي. لم يكن هذا أمراً عبثياً، بل كانت سياسة محكمة التطبيق وواضحة الاهداف، وهو ما أدى اليوم الى غياب تنظيمات معارضة منظمة وقادرة على الإمساك بالحكم إذا حزم النظام حقائبه ورحل، كما يطالبه المحتجون. الربيع العربي تحول الى «جحيم عربي»، كما يقول الطاهر بن جلون في مجلة «نيوزويك» الاميركية. ومع انه يلقي المسؤولية في ذلك على الرئيسين معمر القذافي وبشار الاسد، اللذين لا يطيقان فصل الربيع كما يقول، فإن الحقيقة ان القذافي والاسد وسواهما كانوا «حكماء» في توقع مجيء الربيع، فأعدوا العدة لمواجهته منذ زمن بعيد... وها هم يقطفون الثمار من خلال قطع الطريق على كل وريث ممكن أو بديل!