«تنسل من بياض الورق شموس تمزق عتمة هذا الليل وتذكر بمجرة أخرى، لكنها شموس محبوسة، هي الأخرى، خلف قضبان دونها قضبان. كأن السطور حبال أو أسلاك شائكة تجلس عليها الكلمات – الطيور خائفة مترقبة ماسورة صياد أو مجيء سجان». هذا النص جزء من رواية وصلتني قبل ثلاثة أعوام تقريباً من مجلة أدبية أميركية هي «الأدب العالمي المعاصر». كانت الرواية باللغة الإنكليزية، وحين قرأتها بغرض مراجعتها للمجلة أدركت بعض قيمتها، لكني أدركت أن قيمة أخرى تنتظر قراءتي للأصل العربي الذي لم أحصل عليه إلا بعد ذلك بأشهر. كانت أمامي مفارقة تتمثل في أن الرواية تتخذ من اللغة العربية تحديداً، محوراً أساسياً انطلاقاً من العنوان وانتهاءً بمقاطع كالتي اقتبست هنا، مروراً بدلالة أساسية من دلالاتها. تساءلت حينها كيف يمكن لرواية تتخذ من اللغة العربية محوراً أساسياً أن تترجم، لكني سرعان ما تبينت أن الترجمة لم تخن النص إلا على النحو المبدع الذي ينبغي لكل ترجمة أن تمارسه، أي أن تخلص للغة المنقول إليها مثلما تخلص للأصل، على ما في ذلك من صعوبة يترنح أمامها كثير من المترجمين. كاتب رواية «إعجام» هو العراقي سنان أنطون الذي هاجر إلى الولاياتالمتحدة، إذ يقيم منذ أعوام. وأنطون، كما يبدو من روايته السيرية، من الأقلية الكلدانية في العراق، ولكن الواضح هو أن ثقافته ومواقفه السياسية، أكثر من انتمائه الأقلي، كانت وراء ما تعرض له من اضطهاد في عهد صدام حسين، والرواية سجل لفصول ذلك الاضطهاد على رغم من تداخل الواقع السياسي بالمخيلة السردية والإبداع اللغوي في بنيتها وتشكيلها اللغوي. اخترت أن أقدم نصاً من الرواية يمثل لحظة توهج شعرية تأخذ بالنص بعيداً عن دمامة الواقع، الذي يشكل المتن السردي وما يحمله ذلك الواقع من تفاصيل تجعل الكثيرين يتألمون وقد يشعر البعض منهم بالقرف أو بالغثيان، لاسيما حين يحكي الراوي تفاصيل القبض عليه ثم اغتصابه من ضباط الأمن وسجنه بعد ذلك. غير أن المفارقة هي أن النص الشعري المقتبس يلتقي بأكثر حالات السرد واقعية عند منعطف اللغة الذي يشكّل كما ذكرت محوراً أساسياً للعمل. توهج النص يلتقي بظلمة الواقع حين يتضح أن عنوان الرواية «إعجام» يشير إلى كون السجين كاتباً استولى النظام البعثي على مذكراته ولكن ليس قبل أن يدرك الكاتب ذلك فيسعى إلى تعمية النص بتركه معجماً أو من دون نقاط على الكلمات التي تحتاج إلى نقاط توضحها. الإعجام هنا يطرح بوصفه مقابلاً للإهمال في المصطلح اللغوي (كما في قولنا الدال المعجمة أو المنقوطة، أو الذال، في مقابل الدال المهملة، أو غير المنقوطة، وهي الدال، الخ). لكن ثنائية الإعجام والإهمال هنا تحيل إلى ثنائية ضمنية لأن المقابل للإعجام هو أيضاً الإعراب، فالإعجام يعود إلى العجمة أو عدم الوضوح، في حين أن الإعراب هو الإيضاح. وهنا تكمن مفارقة طريفة، فالإعجام، المشتق من العجمة وعدم الوضوح، هو الذي يؤدي إلى الوضوح، ومرد ذلك إلى أن الإعجام أو التنقيط ظهر حين كثر متحدثو العربية وكتابها بعد ظهور الإسلام وتطور الكتابة العربية، وحين كثر اللحن والخطأ كانت الحاجة إلى الإعجام لكي يتضح لغير العرب أن يفهموا الكتابة، فسمي التنقيط وهو إيضاح الكلمات إعجاماً، كأنهم سموا الإيضاح إبهاماً. غير أن الرواية تطرح وجوهاً أخرى للإعجام. وأول تلك أن الإعجام والإهمال هما جزآن من اللعبة السردية، أي من المتخيل الروائي أو السردي الذي قصد منه إقناع القارئ بأن الكاتب استطاع من خلال عدم الإعجام أن يتحايل على الرقيب. يضاف إلى ذلك أن التقابل بين الإعجام والإهمال يحيل إلى عدد من الثنائيات مثل: التقابل بين وضوح الكتابة وغموضها، والتقابل بين الكاتب والرقيب، والعربي في مقابل غير العربي. والتقابل الأخير مهم في نسيج سكاني متعدد الإثنيات كالنسيج العراقي. يقول الكاتب عن جدته: «كانت دائمة الاعتزاز بأصولنا الكلدانية، وتغضب حين أحاول إقناعها بأننا، ثقافياً، عرب، أو معربون، على الأقل، ولسنا قومية منفصلة كالآشوريين والأرمن». لكن الرواية ليست معنية بهذا التقابل بقدر ما هي معنية بتقابل الكاتب مع الرقيب أي بالبعد السياسي المتمثل في المواجهة بين سلطة النظام وحاجة الكاتب، أو الفنان، وحاجته إلى التعبير الحر. فالرواية تبدأ بخطاب سري، متخيل طبعاً، بعثت به مديرية الأمن العام، ويشير إلى العثور على مخطوطة الرواية وكونها «كتبت من دون نقاط» و من ثم الحاجة إلى كسر عجمتها أو توضيح ما تنطوي عليه. بعد ذلك يبدأ النص السردي على مستويين، مستوى مذكرات السجن ومستوى الذاكرة، الأول يسجّل الواقع المؤلم للكاتب على كل المستويات، والثاني يمثل منعتقاً يستعيد لحظات العشق والصلات العائلية وأيام الأصدقاء والدراسة، إلى غير ذلك. كما يمتد الانعتاق إلى البعد الإيروتيكي/الجنسي، والواقع أن هذا البعد يلعب دوراً مركزياً في النص بدءاً بأول عبارة أو صورة في الرواية، وهي صورة سحاقية، وامتداداً إلى علاقة الراوي بصديقته والوصف التفصيلي لما يدور بينهما من لقاءات حميمة. يتخلل ذلك، كما سبقت الإشارة، ما يرد حول الشذوذ الجنسي وهو هنا الجنس بصورته التي أريد منها أن تصدم القارئ لكونها منفرة ولأنها جزء من تعامل النظام السياسي مع المواطنين الخارجين على قانون السلطة. ويتضح حرص الكاتب على ألا يخلط القراء بين الراوي والكاتب، لاسيما فيما يتصل بكون الرواية تأخذ شكل المذكرات التي قد توحي بالاعتراف، حين نطالع في البدء أن «أحداث هذا النص وشخصياته من نسج الخيال». هذه الملاحظة الأخيرة تمثل مأزقاً حقيقياً لكثير من الروايات ذات الطابع السيري، وهي التي تكاد تهيمن اليوم على كتابة الرواية، فليس من السهل إقناع القارئ العربي بشكل خاص بأن كل شيء في النص متخيل. وتزداد الصعوبة حين تقتحم الرواية أو حتى تلامس عالم التابوهات سواء كانت دينية أو سياسية أو جنسية، ولربما توقفت في مقالات قادمة عند أعمال تضع نفسها في ذلك المأزق. * ناقد سعودي.