كم من الرجال يستطيعون كظم الغيظ والسكوت على الاستفزاز، وخدش الكرامة؟ والحريُّ بالسؤال: مَنْ مِنْ الرجال يستطيع أن يضبط أعصابه إذا كان المساس به موجَّهاً مباشرة إلى رجولته وكينونته وشجاعته؟ هذان السؤالان وجَّههما إلى أي سوداني ولن تختلف الإجابة قط: موت موت... حياة حياة... حتى القانون الجنائي السوداني يضع اعتباراً خاصاً لعامل الاستفزاز حين يدفع إلى ارتكاب جريمة قتل أو أذى جسيم، فيخفف العقوبة، لأن المشرِّع يرى أن الاستفزاز «الخطير والمفاجئ» يمكن أن يُفقد «الإنسان العادي» عقله، فلا يعي ما هو مقدمٌ عليه. فلنتصور أن السودانيين (38 – 40 مليوناً) ظلوا يتعرَّضون لمثل هذا الاستفزاز على مدى 20 عاماً. يأتي رئيس الانقلاب العسكري الحاكم ليقول لشعبه، موجِّهاً خطابه إلى معارضيه، إننا استولينا على الحكم بالبندقية ولن ينتزعه منا إلا من هو «أرْجَل» منّا. ويأتي عرّاب النظام وعقله المدبر السابق حسن الترابي ليقول للعالم من منبر دولي مهم في لندن إن السودانيين يتسمون بالحساسية الزائدة، فإذا اعتقلته وأبقيته في مكان مُضاء ليلاً فهو يعتبر ذلك انتهاكاً لحقه الإنساني! ويأتي واحد من محفل الإسلام السياسي وهو حاج ماجد سوار الذي يتولى رسمياً منصب مسؤول التعبئة والحشد في حزب المؤتمر الحاكم ليهدد الأسبوع الماضي بأن «أي واحد من الحركة الشعبية قطاع الشمال يرفع راسو حنقطعو ليهو»! وأتى مراراً الرجل الثالث في الحزب الحاكم الدكتور نافع علي نافع ليطلق تهديدات أشد استفزازاً وسخفاً مما يعفّ القلم عن تسطيره. النتيجة الطبيعية لذلك أن يبرز بين السودانيين من هو على استعداد لأخذ القانون بيده. حدث ذلك في كندا عام 1992 حين تصدّى مواطن سوداني من إحدى الأسر الأمدرمانية العريقة للترابي أثناء قيامه بزيارة لأميركا الشمالية، فأوسعه ضرباً حتى كاد يفتك به. لكن النظام السوداني المتمسِّح بلبوس الدين لم يرعوِِ ولم يعِ المخاطر. إذ وقعت حادثة مماثلة الأسبوع الماضي في لندن، حيث تصدى رجل سوداني لاستفزاز الدكتور نافع وضربه على رؤوس الأشهاد، فشجَّ رأسه داخل مقر سفارة السودان التي اضطرت لاستدعاء الإسعاف لنقله إلى المستشفى. ومهما قيل في هاتين الحادثتين من أنهما قد تكونان معزولتين، إلا أن هذه النزعة لانتزاع الحق بالقوة، غدت تترسَّخ أكثر فأكثر لدى ملايين السودانيين الذين لا يريدون من الحكم شيئاً سوى أن يكون راشداً، وعادلاً، ومنصفاً لجميع أبناء الوطن. بيد أن النظام المهووس بأمنه لن يسمع صوت العقل، ولن يعيد النظر في «عنتريته»، ولن يصمت عن استفزاز «رَجَالَة» السودانيين. وليس من شك في أن هذا العناد انتحارٌ سياسي ووجودي، لأن الغالبية العظمى من السودانيين لا يقبلون «الحَقَارَة»، والرزوح تحت وطأة الشعور بالغلب والسلب والقهر. وليس بعيداً أن ينفد صبر السودانيين تحت وطأة اليأس والشعور بالاستفزاز من المحفل الخماسي الحاكم الذي بدأ يكشِّر عن أنيابه لتخليد حكمه على شعب السودان الشمالي، بعدما قسَّم البلاد إلى دولتين. ما يحدث في شمال السودان ليس سوى «خلطة» بارود جاهزة للانفجار، ولن يكون في مستطاع نظام الإسلاميين السيطرة على ما سينتج منها. إذ رأينا كيف فقد العقيد معمر القذافي شرق ليبيا على رغم ضخامة ترسانة الأسلحة التي يملكها. ولن تنفع هؤلاء شجاعتهم الزائفة، وتمسُّحهم بالانتماء إلى العروبة والإسلام، لأن القناعة غدت متزايدة في نفوس السودانيين بالقول المأثور: «لا يفل الحديد إلا الحديد». ولا ينفك المرء يعرب عن أسفه مراراً وتكراراً أن يكون مصير بلاد الشمال السوداني ذلك العنف والدم والتقتيل والاحتقان والأضغان من جراء سياسات هذه المجموعة. هؤلاء يخططون للاستئثار بما بقي من السودان القديم، بشراً وأرضاً وموارد وسلطة وثروة، في ظل دستور يسمونه إسلامياً يطلق يدهم. وهي معركة ينبغي أن يخوضها الشعب السوداني وحده ليثبت للعالم أنه محبٌّ للحرية، وأنه معادٍ للعنصرية واستعباد الأحرار، وأنه جزء لا يتجزأ من الأسرة الدولية ومواثيقها لصيانة حياة الإنسان وحقوقه. والمجتمع الدولي مطالب بتحقيق دولي صارم وعاجل في ما يدور في جنوب كردفان (الجنوب الجديد لشمال السودان)، وهي أعمال عنف زادها سعيراً ووقوداً حاكم جنوب كردفان أحمد هارون بإعلانه من على منبر مسجد عاصمة ولايته أن الأمر سيتواصل من أجل إعلاء كلمة «لا إله إلا الله». هل أمر الله الحكام بقتل رعاياهم؟ لماذا يختلف «إسلام» البشير وهارون وأضرابهما عن الإسلام الذي ندين به ونتعبّد به ونراه في بلدان المسلمين والعرب التي لنا صلات وثيقة بها؟ * كاتب وصحافي من أسرة «الحياة»