كأنها لعبة. رزمة لهو إبداعي هي رواية «ملك اللوتو»، لمؤلفَيها جهاد بزي وبشير عزام (رياض الريس - بيروت). خصوصيتها محفوظة في كل ذلك التحايل والارتجال والاستدارة والمناورة واليقين والتساؤل والمغامرة، في كل ما يرشح من التفاف ومباشرة وترميز، واختراع لانحرافات تقفز بالشخصيات إلى أزمنة وأمكنة، وتلبسها أثواباً ربما فاجأت الكاتبَين نفسيهما، قبل قارئ، ستأتي عليه لحظة ويفكر في فعل الكتابة أكثر من المكتوب، ويقول: لا بد أنهما تسلّيا! خبث لذيذ تبادله بزي وعزام عبر البريد الإلكتروني، «مُتنكّرين» في شخصيتي راويَي «ملك اللوتو»، حتى انتظمت الرسائل-الفصول في حوالى 300 صفحة تولّف رواية متكاملة يجافيها الضجر، عن «فواز فواز» الذي يختزن في خريطته الجينية... ذاكرة الكون، لا أقل. ولا استهانة بما يسع المكر الروائي فعله – تهشيماً - بالعناوين الكبرى، وهنا «القفشة» الأساس في «ملك اللوتو». «فواز فواز» هو كلنا، منذ بداية الخليقة. تُختزل البشرية في شخصه الكاريكاتوري، ومزحات كاتبيه تمر عبر جسده وتركيبته الروائية اللعوب، مخترقة أمسه وغده الذائبة بينهما الحدود مثل خيال تجرّع مشروب الطاقة دفعة واحدة. نتعرف على فواز منذ تكوينه في رحم أمه، حينما رأيناه «منتفضاً، متقلباً على نفسه، غارقاً في سباق محموم مع ملايين الفواز فوازيين... يصارع في اللحظة الأخيرة كي لا يصطدم بهذه الكرة البيضاء العملاقة التي فتحت فمها والتهمته، وراحت غصباً عنه تصنع منه فواز فواز الذي سينتظره العالم بعد تسعة أشهر...». هذا الفوّاز رأى كل شيء مسبقاً، ويعرف الآن كل شيء، ولذلك بالضبط أمكن بزّي وعزّام أن يروياه كما فوضوية الحياة وعبث الكون ونظامه. لا حدود عندهما لأي فكرة، ولا حرج في أي انكشاف. الأفلام والأغنيات ولمعات كُتّاب يحبهم أو يمقتهم كلّ منهما، مسوّغات استطراد، وحوار، وبناء لهياكل صغيرة تتلاصق وتتراكم لتشيّد بيت الرواية الأكبر. بل لا تردد في سكب المخاوف التي لا بدّ تعتري كل كاتب، مُكرَّساً كان أم مبتدئاً، وعلى رأسها الإحساس المرعب بأن كل شيء قد كُتب، وأنه مهما تفتّقت القريحة فلن تأتي بجديد، بل ستنتج تنويعة على سابق ما، في أحسن الأحوال. يقال ذلك كله في «ملك اللوتو» بوضوح ومواربة في آن، بصياغة مباشرة، وبمراوغة البوح. تكاد الرواية تكون تفكيراً بصوت عال في ما يُكتب، وفي ما يمكن أن يُكتب. جرأة في خلط الهوامش مع المتن، وحتى الملاحظات الأولية التي يخربشها كاتب كمتفرقات قبل الشروع في الكتابة. وينتظم أخيراً سياق لمدوّنة بزي وعزام، على عكس ما قد يتوقع القارئ في البداية. فالشذرات لا تلبث أن تكمّل بعضها بعضاً، ليتفرّد المنتج النهائي. منتج يُضحك ويمتع، وقد يدفع إلى شيء من التأمل. يسعى أحياناً إلى دور مرآة نفسية، وفي أحيان أخرى يوشك أن يتذاكى، قبل أن يعود فيتواضع، فتكون هذه مفاجأته-هديته. والمتراسلان الراويان ليسا بالضرورة بزي وعزام. بل يقف الأخيران خلف شخصيتي «باتريك» و «جوزيف» اللذين بدورهما يتلوّنان كقاصّين متناوبين على رواية قررا أن يكتباها معاً، وهما لا يعرفان بعضهما بعضاً إلا كلاعبي شطرنج تلاقيا على الإنترنت. الراويان يمسيان شخصيتين في الرواية، بل بطلين. والحق أن الكل بطل في «ملك اللوتو»، والكل تقريباً راوٍ. هكذا هو فواز فواز، ووالداه وإخوته، وقبلهم جميعاً الارتجال المنظم الذي قد يحمل عراكاً بالأيدي بين «إنصاف» (أم فواز) و «منى» (شقيقته) إلى العصر الحجري. وهو الارتجال نفسه الذي يصوّر فوّاز في قلب حكاية جاسوسية في باريس، أو مراهقاً في الصعيد المصري ورفيقه في «الكُتَّاب» ليس سوى الفتى الأعمى طه حسين. وقد يتساوى «باتريك» و «جوزف»، في سلطة السرد، مع راويَيهما، بل سيتجرأ «باتو» و «جو» على مراسلات تآمرية من خلف ظهري بزي وعزام. حتى فواز يبتغي مساواته بالأربعة هؤلاء، إذ يتمرد ذات مرة، لينتزع زمام الرواية من «باتريك» و «جوزف» ويقرر أن يكتب هو أيضاً فصلاً أو اثنين. الكل يريد صوتاً في «ملك اللوتو» ويحصل على بعض منه، حتى فواز فواز، الشخصية التي تدور حولها وليس بها الرواية، يشتهي المِقوَد ويناله، ولو لبرهة. وفواز فواز هو المخلوق الذي لا تنسكب له دمعه، بل لم يبك حتى في لحظة ختانه. وُلِد كُرة شَعْر، وكبر ليكتشف احتمالات الحياة على يدي راويين صارا هما أيضاً كتلة احتمالات. فباتريك يواعد فتاتين في الوقت نفسه، ويخاف الزواج، ويبدو مقبلاً عليه. ينتقد جوزيف ويفتتن بعباراته، ثم يعود فيهشّمه قبل أن يقرر ممازحته في خصوص الهمزات التي يترك حروف الألف «سافرة» أو «حافية» من دونها. أما جوزف، فلا يبدو لنا شلله النصفي يقيناً، ولا نتأكد فعلاً من أنه مترجِم محترف... أم أنه أستاذ جامعي؟ متزوج؟ أم يخترع المرأة التي يقول إنها ضحّت وبقيت معه منذ أن تعثّر على الدرج وأصابه أياً كان ما أصابه. «باتو» و«خوسيه»، كما يناديان بعضهما بعضاً أحياناً، يتكاذبان ويتكاملان ويستكشفان أفقهما. أما الاكتشاف الأحلى فهو من نصيب القارئ، وقبل انتصاف «ملك اللوتو»، إذ يدرك أنه ليس إزاء رواية عن عبثية الحياة، بل هي رواية عن كتابة الرواية. وإذا كانت لتتخذ في الرأس شكلاً هندسياً فلا بد من أن تكون الدائرة، بل دوائر متداخلة، منفصلة متصلة، تماماً كالخيال العامل خلف عيني كاتب يفكر في روايته، يركّب حيوات شخصياته، يكتب فكرة ويجادل نفسه فيها، فيراها مبتذلة أو منقوصة أو نواة التماعة فذّة ستقلب عمله رأساً على عقب. «ملك اللوتو» دائرة ملونة. لنأخذ مقتل منى على يد شقيقها الثاني فايز فواز، مثلاً زاهياً، كحلقة حمراء في دائرة من قوس قزح: المفترض أن الراويَين هما اللذان كبّرا الأولاد بجرّة قلم، وجعلا فايز يقتل منى التي هربت مع شاب وتزوجته. ينشر خبر الجريمة في الجريدة: «ف.ف يقتل م.ف». هنا يظهر طه فجأة، عائداً من ذلك الفصل في الصعيد قرب الترعة. نعم، طه حسين لا سواه، لكنه هذه المرة رجل عادي لطالما أغوته فكرة أن يصبح كاتباً، كما الأديب الكبير الذي يحمل اسمه بمحض المصادفة. يقرأ طه الخبر في الجريدة ويقرر أن اللحظة الموعودة قد حانت، فهذه بذرة روايته منشورة أمامه، سيستلهم منها ويكتب عن فايز ومنى فواز، وسيولّف لهما عائلة، وسيخترع فواز فواز وراويين يسردان القصة في حوار طويل، مثل ذاك الذي يدور بين فلاديمير واستراغون في مسرحية بيكيت... وهكذا نرى عَوْداً على بِدءٍ جديد، مغاير. فحتى البداية تبقى احتمالاً مفتوحاً وقابلاً للشقلبة في «ملك اللوتو». وكما اسم صاموئيل بيكيت، ههنا، لا تبدو مقحمةً ولا غريبةً أسماء رشيد جبور وغابريال غارسيا ماركيز وميلان كونديرا، وحتى ابن الرومي ومحمود درويش. أسماء ترنّ كالأجراس في ذهابها وإيابها عبر البريد الإلكتروني، بين باتريك وجوزيف، فتتخذ دوائر الألوان موسيقاها أيضاً. تُستَقدم تلك الأسماء إلى حوار الراويَين كضرورة، كعصف فكري يُدوَّن ويتوخى في النهاية الكتابة لذاتها، رواية في قلب رواية، أو رواية عن كتابة الرواية. هي الحمولة التي قد تثقل كاتباً أو يقرر أن يتخفف منها، لكن وجودها في ذاته جزء من حالته. «ملك اللوتو» حالة أيضاً. تجريبية، طازجة، متحررة من ادعاءات ووعود. يشترك القارئ في متعة جهاد بزي وبشير عزام. بل قد يفكّر في التمرّد، هو أيضاً، على موقعه كقارئ، فيتناول ورقة أو يفتح جهاز كومبيوتر محمول ويشرع في كتابة شيء على صفحة أولى رقمها 301.