ليست النماذج المصرية والتونسية أو السورية واليمنية أو الليبية هي الخيارات المتاحة أو مسارات حتمية للإصلاح والتغيير، فهناك خيارات عدة من غير عنف أو تظاهرات واعتصامات، ويمكن للحكومات والمجتمعات اليوم وبخاصة في الدول التي حققت قدراً من الرضا السياسي والاجتماعي أن تدير تسويات وصراعات سلمية تؤول في النهاية إلى إصلاح سياسي واجتماعي وتغيير جذري لا يقل في مستواه وعمق تأثيره عن نتائج الثورات والتظاهرات الشاملة، وربما يكون هذا مصدر التيه والأزمة في الحراك الإصلاحي الأردني القائم اليوم! هل يمكن تجنب هذه المسارات جميعها ونحقق الإصلاح المنشود في الوقت نفسه؟ هل نحتاج إلى نموذج مختلف في المسار الإصلاحي؟ النماذج المصرية والتونسية والليبية واليمنية والسورية تشكل هاجساً للحكومة والناس في الأردن، الحركات الشبابية والمعارضة (التي تدعو إلى الإصلاح أيضا) لا ترى أفقاً للعمل سوى الخروج إلى الشارع، ولما كانت قواعدها الاجتماعية غير مستعدة للتظاهر والاعتصام بأعداد كبيرة، ولا تملك هدفاً واحداً يجمعها ويحركها للخروج فإنها تبدو في حالة ارتباك وإحباط وشعور بالفشل وكأن النجاح لا يكون إلا في تكرار النموذج المصري والتونسي. والحكومة أيضا لا ترى مساراً محتملاً للعمل والمواجهة سوى النماذج المصرية والتونسية والسورية واليمنية (النموذج الليبي غير وارد)، ولا تملك سوى حشد وتعبئة قواعدها الاجتماعية وجماعات من المؤيدين والبلطجية (لا أحد يعترف بعلاقته بهم) وأجهزتها الأمنية والتنفيذية في مواجهة الجماهير، ولكن الجماهير تعتصم بأعداد قليلة وتطرح شعارات ومطالب لا تدعو إلى البطش والتنكيل، فيعتريها (الحكومة) هي الأخرى الإحباط والارتباك، فلا هي قادرة على الحوار ولا تريده وليست مهيئة له، ولا تملك سنداً قانونياً وأخلاقياً لسحل الناس واعتقالهم والبطش بهم، وللأمانة أيضا فلا يبدو أن الحكومة تريد هذه الأزمة، ولكنها حائرة ومرتبكة مثل المعارضة. والواقع أن الحكومة تتلقى ضربات تحت الحزام من دون أن تقدر على الرد، لأن الرد الوحيد لديها القادرة عليه هو المواجهة والردّ، ولكنها تبدو معركة يتساوى في مرارة وعقم نتائجها النصر والهزيمة! وتسابق النواب (غالبيتهم) لإحالة رئيس الحكومة ووزير السياحة السابق إلى المحاكمة، وكانت نتيجة التصويت إحالة الوزير وإعفاء رئيس الوزراء، فتحولت النتيجة رغم أنها عملية متقدمة سياسياً وديموقراطياً وتجربة مهمة للدولة والمجتمعات والمعارضة، والحكومة أيضا، ولكن عدداً كبيراً من النواب ظل متمسكاً ورافضاً للنتيجة، ويسعى في تعطيل اجتماعات المجلس محاولاً إعادة التصويت وإحالة رئيس الحكومة. والمفارقة العجيبة أن النواب المستشرسين والمصرين على محاكمة رئيس الوزراء منحوا رئيس الوزراء السابق الثقة بعدد كبير من الأصوات (111 من 120) لم يحصل عليه رئيس وزرارء من قبل. هذا المزاج السياسي القائم رغم التحول الكبير نحو محاسبة الحكومة ومعارضتها لا يشجع على الإصلاح والعمل، فليس المطلوب «بهدلة» مسؤول ولا تقديم خطاب إعلامي قاسي النقد والمعارضة، فذلك لا يحسن حياة المواطنين ولا يلائم صراعاً طويلاً وحازماً مع الفساد والترهل، ولا مراجعة دؤوبة مع المرحلة السابقة، ولا يقدم تصوراً عملياً واضحاً للخروج من الأزمة والمأزق، يجب أن يتذكر الناس والنواب والحراك الإصلاحي أننا لسنا في عام 1989 عندما كنا فرحين بالديموقراطية ونتعامل مع العملية السياسية القائمة وكأنها عرس، ونصفها باعتزاز «عرس ديموقراطي» فقد انتهى العرس ودخلنا في مرحلة قاسية ومملة من العمل فليست الحياة كلها أفراح وليالي ملاح!! وفي النهاية يجب أن نواجه استحقاقات أساسية وبسيطة وبديهية ما زلنا منذ 22 عاماً نتجاهلها، وهي أن الدول والأنظمة السياسية والاقتصادية تنشأ حول الموارد الأساسية، ثم تتشكل حولها مجتمعات ومدن وقرى وأندية رياضية وثقافية وصحافة ومسرحيات ومدارس وجامعات وأسواق وأطعمة وملابس وموسيقى وفنون وأحزاب سياسية، ولكن ذلك كله من غير موارد أساسية محمية ومتجددة ومتزايدة وتدار بكفاءة وأمانة وتوزع بعدالة، مثل قبض الريح! * كاتب أردني