في شهرها الرابع أفرزت موجة الثورات الشعبية العربية نماذج مختلفة، منها النموذج التونسي المصري، والنموذج اليمني، فالليبي والسوري... إلخ. اختلاف النماذج يعكس اختلاف المجتمعات العربية وتجاربها التاريخية. تعكس هذه النماذج أيضاً طبيعة النظام السياسي في كل حالة، والأساس الاجتماعي الذي يستند إليه. لا يمكن تناول كل النماذج هنا بغرض المقارنة والتحليل. لا بد من الاختيار ونبدأ بسؤال: كيف تبدو الثورة في النموذج اليمني والسوري؟ لكن لماذا، ربما تساءل البعض عن اليمن وسورية تحديداً؟ والجواب عدا عن أن كلاً منهما يمثل نموذجاً للثورة مختلفاً عن الآخر، إلا أن كل نموذج منهما يضيء الآخر. ما بين هذين البلدين من فروقات، وما آلت إليه هذه الفروقات من نتائج بالنسبة للثورة في كل منهما يجعل من كل منهما نموذجاً لافتاً، وكلاهما معاً يمثل حالة عربية لافتة في متواصلة الثورات العربية، حالة تستحق شيئاً من التأمل. أول ما يلفت النظر في هذه الحالة أن اليمن في نموذجه الثوري أقرب للنموذج التونسي والمصري: موجة الاحتجاجات، والاعتصامات في تصاعد مستمر، يوم الجمعة موعد ثابت لتظاهرات مليونية، والمطلب الذي يتردد في أنحاء الجمهورية هو «تنحي الرئيس»، ومن ورائه شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». الرئيس يتقبل وإن على مضض مطلب التنحي. وكما كان في حالتي تونس ومصر، لا يعتبر الجيش نفسه طرفاً في عملية الصراع الدائر، وإنما مسؤول عن صون الدستور وحماية الدولة. مظاهر العنف لا تفشل في الظهور، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة، لكن السياق العام للثورة لا يزال سياقاً سياسياً في أغلبه. الغائب الوحيد عن هذا المشهد اليمني الزاخر هو «الخوف». والحقيقة أن جدار الخوف في اليمن لم يكن عالياً كما في بعض الدول العربية، خصوصاً سورية. في النموذج اليمني يعكس مسار ثورة الشباب، وعلاقتها بالمعارضة، ورد فعل النظام السياسي عليها، طبيعة الدولة اليمنية. هذه دولة شبه ديموقراطية في الشكل الدستوري، ودولة فرد مستبد في المضمون السياسي. فرضت قوة القبيلة في علاقتها مع هذه الدولة هامشاً واسعاً من حرية الرأي وحرية التعبير، وبالتالي فرضت تعددية حزبية، لكنها غير منتجة سياسياً حتى انفجرت الثورة. ظلت أحزاب المعارضة تتهيب النزول إلى الشارع، على رغم قناعتها بأن الرئيس يعمل على توريث الحكم لابنه أحمد. كانت تخشى من أن يؤدي نزولها الى الشارع إلى حرب أهلية. لكن ربما أنها كانت تخشى أيضاً أن ذلك سيعطي مبرراً لحكومة علي صالح بأن توجّه لهم ضربة عسكرية قاسية، لا أحد يعرف نتائجها. مهما يكن جاءت مبادرة النزول إلى الشارع من الشباب في استجابة مبكرة لموجة الثورات الشعبية، ولتتحول تدريجياً إلى تظاهرات مليونية في العاصمة وفي بقية المدن اليمنية. شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، والمطالبة بتنحي الرئيس هما المطلب الذي تتمحور حوله التظاهرات الشعبية، وفي سبيله تتصاعد موجة الاحتجاجات وتتسع. ربما تميز النموذج اليمني عن النموذج التونسي والمصري بأن الرئيس علي عبدالله صالح ليس معزولاً تماماً، من حيث أنه يستطيع من خلال مؤسسات الحزب والدولة تعبئة جماهيرية تقف بالتوازي مع الجماهير الحاشدة التي تطالب برحيله، وهو ما أدى إلى نوع من انقسام الشارع بين الثوار وقيادات الثورة. تمرد اللواء علي محسن، قائد اللواء الشمالي، يوحي بأن انقساماً قد حصل في الجيش إلا أنه ليس كبيراً. والجيش في أغلبه يميل إلى أن يحتفظ لنفسه بموقع الوسط بين الثوار، ومعهم المعارضة، وبين الرئيس ومعه مؤسسات النظام. موقف الجيش اليمني يتسم بدرجة كبيرة من المسؤولية، وهو في ذلك كأنه استفاد من التجربتين التونسية والمصرية. في المقابل هناك النموذج السوري المفعم بالخوف والعنف المستتر. هذا النموذج أقرب في طبيعته وتوجهاته للنموذج الليبي، وأبعد ما يكون عن النموذجين التونسي المصري. التظاهرات في المدن السورية ليست مليونية في حجمها، لكن رد فعل النظام عليها، وعدد شهدائها على يدي قوات النظام كبير بما يوحي بأن حجم الاحتجاجات أكبر مما هي عليه حقاً. لم تتجاوز مطالب المحتجين، حتى الآن حدود الحرية والكرامة، ومحاربة الفساد، مع ابتعاد واضح عن المطالبة بإسقاط النظام. ومع ذلك فالحاضر بقوة في المشهد السوري هو الخوف. جدار الخوف هنا هو الأعلى من بين كل الدول العربية، خصوصاً بعد سقوط هذا الجدار في ليبيا: خوف الناس من الأجهزة الأمنية، وخوف النظام السياسي من تصاعد الاحتجاجات، وتغيّر خطابها في اتجاه المطالبة بإسقاطه، إلى جانب الخوف تسيطر على المشهد أيضاً حالة من الشك المتبادل والتكاذب السياسي. يقال بأن الرئيس أمر بعدم إطلاق النار على المتظاهرين، لكن إطلاق النار هو رد الفعل الأول، والمستمر لقوات الأمن على هؤلاء المتظاهرين. ومع أن شعارات التظاهر لا تزال في حدود الحرية والكرامة، إلا أن هذا لا يعكس بالضرورة تمسكاً بشرعية النظام، أو أن هدفها محصور في تغيير هذا النظام من الداخل، وليس إسقاطه. لذلك بدلاً من أن يأخذ النموذج السوري، وفي الجانب الرسمي منه تحديداً، سياقاً سياسياً كما في النموذج اليمني، يجنح نحو خيار القوة والعنف لحسم الموقف. مأزق النموذج السوري أن النظام السياسي فيه يعطي كل المؤشرات على أن الإصلاح الحقيقي ليس في صالحه، ولذلك يحاول الجمع بين أداة العنف المبكر كسلاح للردع من الاقتراب من طرح مطالب سياسية واضحة، وبين لغة تؤكد على الشعارات المطلبية، مع التأجيل والتسويف لتحقيق هذه المطالب. في النموذج السوري ليست هناك معارضة أصلاً، لأنه لا يستقيم أن يعارض أحدُ نظاماً سياسياً «ممانعاً ومقاوماً». غياب المعارضة جعل حركة الاحتجاج في مواجهة النظام عزلاء من السلاح ومن الحلفاء. لذلك تعكس الحركة الاحتجاجية ورد الفعل عليها طبيعة الدولة، بل قل النظام السياسي الذي اختطف الدولة. هذه دولة اختزلها نظام سياسي تحت سيطرة عصبية صغيرة تمسك بمفاصل الأجهزة الأمنية، ومتحالفة مع قوى من خارجها. تتلحف هذه العصبية برداء حزب البعث، وتستخدمه كغطاء لتوارث السلطة على أساس من ذريعة سياسية مكتوبة بلغة دستورية (التكاذب مرة أخرى) تقول بضرورة أن يكون البعث هو «الحزب القائد في المجتمع»، ما يعني أنه لا يؤتمن غير البعث بتولي سلطة الحكم. من الواضح أن النظام السياسي في هذه الحالة يفتقد إلى أيديولوجيا يمكنه الاستناد إليها. البديل لغياب هذه الأيديولوجيا، كما يبدو، هو خليط الخوف والتكاذب السياسي من ناحية، والردع الأمني القاسي من ناحية أخرى. وعلى هذا الأساس تعزو الحكومة السورية قتل المحتجين إلى عصابات «مندسة» تقتل المواطنين ورجال الأمن معاً بهدف إثارة الفتنة. لكن الحكومة السورية لا تتبع ادعاءها هذا بالتحقيق، أو محاولة القبض على أعضاء، أو بعض من أعضاء هذه العصابة. وعلى رغم أن التظاهرات في سورية أبعد ما تكون عن المليونية - حتى الآن إلا أن هناك استنفاراً أمنياً غير عادي، وآخر إعلامياً يفتقد لأدنى درجات الذكاء السياسي لأنه مشوب بحالة إنكار استثنائية. تركز الحملة الإعلامية على شيئين: تكريس عبادة فرد الرئيس، واختزال الدولة في قيادته «الاستثنائية»، ثم الترهيب من التعاطف مع المحتجين. عدا عن عبادة الفرد والترهيب تفتقر الحملة الإعلامية إلى أي خطاب سياسي ذي معنى. وهذا على عكس النموذج اليمني، حيث تتقابل طروحات شباب الثورة والمعارضة مع طروحات النظام السياسي وأنصاره في الشارع، وفي الإعلام الذي يتحدث باسم كل منهما. النظام السياسي اليمني يكسب من ذلك، ليس معركة الثورة، وإنما شيئاً من الوقت يؤمن تنحي الرئيس بشروط أفضل، وربما بكلفة أقل. في سورية كلمة التنحي محرمة، لكن هذه الحرمة أمنية أكثر منها أيديولوجية أو سياسية. لذلك يتوجس النظام من اتساع نطاق الاحتجاج. أمثلة تونس ومصر واليمن تبعث على القلق. تبدأ الاحتجاجات صغيرة، وبدلاً من أن تتوقف أو تتراجع أمام قوة العنف والإرهاب تتوالد بشكل مخيف. على الجانب الآخر لا يزال الخوف يحد من السلوك السياسي للناس أيضاً. وهذا يشجع النظام على المزيد من العنف ولغة القوة. مأزق هذا النظام أنه لا يدرك تغير الظرف والمرحلة، وأن المزيد من القتل سيؤدي إلى انهيار جدار الخوف لدى الناس، وبالتالي يسرع بما يتوجس منه النظام. لاحظ هنا حيوية الحركة السياسية في اليمن، في مقابل الجمود السياسي في المشهد السوري، خصوصاً في جانبه الرسمي. في النموذج السوري يصر النظام السياسي على أن يجعل من تصاعد الاحتجاج والوصول إلى مرحلة المطالبة بسقوطه مكلفة على الطريقة القذافية. والأرجح أن قيادة هذا النظام تأمل بأن نجاح القذافي أمام الثورة سيضعف من زخم التظاهرات في سورية، ويمنعها من التحول إلى حالة ثورية متكاملة. لاحظ أيضاً حالة التعاكس هذه: جمهورية القبيلة، أو اليمن أقرب في حراكها السياسي إلى النموذج التونسي المصري، الذي يستند الاستبداد فيه إلى مؤسسات دولة مدنية، وخطاب سياسي حيوي بمفردات متعددة. أما نموذج جمهورية حزب البعث، أو جمهورية الخوف السورية، فهو أقرب ما يكون في حراكه السياسي الحالي إلى نموذج هجين بين الدولة والعشيرة، كما يتمثل في جماهيرية القذافي يعتمد على خطاب أمني يفتقد أي أفق سياسي واضح. كيف انتهت حواضر الشام بتاريخها العريق إلى هذه الحالة السياسية البائسة؟ * اكاديمي وكاتب سعودي