يبدو العالم الآن مختلفاً تماماً، مغايراً لما عرفناه من قبل منذ اكتسحت ثورة تكنولوجيا المعلومات حياتنا فغيرتها وجعلتنا نلهث راكضين في هذا العالم الذي يسعى على الطريق السريع للمعرفة والمعلومات التي تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر في ثوان وربما في أجزاء من ثانية. لقد دخلنا منذ حوالى العقدين من الزمن مرحلة جديدة من مراحل تطور البشرية، أو ما يسميه بول فيريليو عصر «القنبلة المعلوماتية». فبتعميم الإنترنت وتمكين كل من يملك جهاز حاسوب من دخول الشبكة العنكبوتية، والإطلاع على ما يتلاطم في أمواج هذا البحر الهائل من معارف ومعلومات، تغير وجه العالم، ولم يعد في الإمكان التحكم بما يطرح من مواد معلوماتية وغيرها بين أيدي البشر وتحت أبصارهم. لكن المشكلة التي تعترض سبيلنا في هذه البقعة من العالم تتمثل في موقفنا من وسائط المعرفة والمعلومات الجديدة. فهل نقف مبهورين بما يقدم لنا، أم نصبح شركاء فيما صنعه الآخرون ومازالوا يصنعونه؟ سؤال يقض المضاجع في الوقت الذي لا تتوقف كرة الثلج المعلوماتية عن التدحرج، خصوصاً أن كل يوم يحمل لنا جديداً يغيّر من أشكال الوسائط التكنولوجية، وسرعتها، وأشكال التعامل معها، وكيفية حملها للمعلومات، والرؤية الثقافية التي تصنعها هذه الوسائط. لقد ذهب الزمان الذي كان فيه الكاتب أو الرسام أو صانع الفيلم أو المسلسل أو البرنامج يفرض فيه مادته على المتلقي السلبي، ودخلنا عصراً يمكن لهذا المتلقي أن يقول فيه كلمته بسرعة لم نتخيلها من قبل. وتكفل المدونون والمتحاورون على الفايسبوك وتويتر، وغيرهما من مواقع التحاور، بإيجاد مجموعات واسعة تتيح حرية التخاطب وإبداء الرأي من دون مرور عبر رقابة محرري الصحف والمجلات، وسماح مؤسسات الإذاعة أو التلفزيون، أو دور النشر، للمتلقي أن يقول كلمته. إنه عصر المؤلف المتلقي، بعد أن كان العصر السابق هو عصر المؤلف الذي يبث مادته لمتلق جالس في فضائه الخاص معزولاً غير قادر على قول رأيه. في سياق هذا التطور التكنولوجي ولدت ثورة الفايسبوك، وهو المصطلح الذي بدأنا نطلقه على الاحتجاجات والانتفاضات والثورات العربية الجارية الآن. فلولا هذه الوسيلة التواصلية المدهشة لما أمكن أن يحدث التغيير في تونس ومصر. فهو وفر لا وسيلة التغيير فقط بل المطبخ الذي أمكن أن تعد فيه أوامر الثورة وتكتيكاتها والشعارات التي يرفعها المحتجون الثائرون على سلطات غير عصرية تستعين بالتكنولوجيا للتصنت على الناس ورصد تحركاتهم وتعذيبهم وتنغيص عيشهم فقط. ولعل الفجوة الجيلية التي تفصل بين الشباب الثائرين والسلطة الجائرة الظالمة قد ساعدت في انتصار الثورتين التونسية والمصرية، فالسرعة كانت على الدوام عاملاً مرجحاً للانتصار في المعارك والحروب، ولا بد أن عدم قدرة الأنظمة على التفاعل مع التغيرات التكنولوجية المتسارعة، والأهم من ذلك مع تحولات القيم والفهم وأشكال استقبال العالم، قد رجحت كفة الثائرين الشباب، ومعهم بالطبع معظم شرائح المجتمع وفئاته العمرية، على السلطات المتكلسة العتيقة. لم تدرك السلطة العربية، حتى هذه اللحظة، أن القوة الخشنة والعنف الفالت من عقاله لا يستطيع أن ينتصر على القوة الناعمة. وإذا كان المنظرون الاستراتيجيون قد تحدثوا من قبل عن القوة الناعمة للدول، وعن الحضور الاستراتيجي والقدرة على التأثير في المحيط الخارجي والمقدرات الحضارية للدول في ميزان الاستراتيجيا، فإن القوة الناعمة للشعوب تتمثل في قدرة الشباب على استخدام التكنولوجيا المتقدمة لغايات الاحتجاج وتنظيم التظاهرات والتواصل على الشبكات الاجتماعية ونشر ما تمنع السلطات نشره في وسائل إعلامها العملاقة المعقدة المكلفة، وكذلك تحويل هذه التكنولوجيا إلى أدلة قضائية ضد قمع السلطة ووسائلها غير القانونية لإسكات الاحتجاجات. إنها عصا التكنولوجيا السحرية التي مست عالمنا فنقلتنا من عصر إلى عصر، من زمن الدولة إلى زمن الثورة، من زمن الاستخذاء والخوف إلى زمن الكرامة والحرية.