وأصبح لمصر رئيس. صحيح أن طرقاً أغلقت وميادين تعرقلت وأعمالاً تعطلت، لكن الكرسي أمسى مشغولاً. وصحيح أن البعض تعجب من أن يكون استهلال رئاسة المشير عبدالفتاح السيسي الذي قال إنه لا يملك سوى العمل ولا يطلب من المصريين إلا العمل بعطلة رسمية، إلا أن الرئاسة التي طال انتظارها تبرر الإجازة التي فهم الجميع ضمناً الغاية الأمنية منها. وعلى رغم أن دولاً غربية عدة، وأخرى شرقية ليست عدة تنتابها مشاعر كمد وتحكمها أحاسيس غضب، إلا أن القصر أغلق بابه ليلاً مطمئناً إلى ساكن جديد. وعلى رغم أن الساكن الجديد أتى بما لا تشتهي مملكة الميكروباص ومافيا التوك توك وجحافل الباعة الجوالين، إلا أن مصر خلدت إلى فراشها اليوم وهي تعلم أن غداً الذي وعد بأن يكون قريباً لناظره، قد حقق عهده والتزم قسمه وأتى بمن يؤمن 24 مليون مصري ممن لهم حق الانتخاب بأنه قادر على أن يحوّل مصر من «أم الدنيا» إلى «قد الدنيا». الدنيا في حي «مصر الجديدة» وجارها المتاخم في «قصر القبة» وميدانها الأسطوري في «التحرير» وكورنيشها الطويل المؤدي إلى «المعادي» ارتدت حلة جديدة وكانت الشاهد الأول على مرور ثاني رئيس منتخب أتت به الصناديق بعد الدكتور محمد مرسي، وأول رئيس منتخب يعزل أول رئيس منتخب أتت به الصناديق استجابة للإرادة الشعبية، وأول رئيس يتسلم السلطة من آخر على قيد الحياة وليس حبيس السجون وهو المستشار عدلي منصور، وثاني رئيس يتسلم السلطة في أجواء بعيدة من الحداد بعد الدكتور محمد مرسي، وسابع رئيس في التاريخ المصري المعاصر المؤرخ له منذ ثورة تموز (يوليو) 1952. معلم اللغة العربية – على المعاش - الأستاذ عبد الله حسين (72 سنة) يلخص سبب فرحته وسر غبطته اللتين دفعتاه للتمركز في الحديقة العامة المواجهة لقصر الاتحادية رغم إغلاق الطريق وحرارة الجو وتضييق الأمن ملوحاً بعلم صغير وهاتفاً بين الحين والآخر «تحيا مصر». يقول: «عبد الناصر تسلم الحكم في أجواء لغط حول تنحية محمد نجيب أول رئيس مصري، والسادات أصبح رئيساً والشعب المصري كله في حداد على وفاة قائده العظيم ناصر، ومبارك تولى الحكم في ظرف أسود وأيام هباب بعد اغتيال الراحل السادات، ومرسي تقلد الحكم واقفاً على خط فاصل جعل من مصر مصرين، الأولى متأسلمة والثانية متأسفة، وعدلي منصور رئيس محترم لكنه أتى في لحظة هي الأصعب في تاريخ مصر الحديث. واليوم يأتي السيسي رئيساً والجانب الأكبر من المواطنين فرحين فرحة من القلب دفعتهم دفعاً للرقص انتخاباً واحتفالاً وتنصيباً». تنصيب السيسي يوم أمس وضع نقطة أمام خرافة «مرسي راجع إن شاء الله». ورسخ تقليداً بتسلم السلطة بين الأحياء. وأرسى قاعدة بفرح المصريين فرحاً طوعياً لا مجال فيه لباصات حكومية تحشد كومبارس المحبين حشداً، أو أجوال إخوانية تجبر البسطاء على الفرحة شاياً وسكراً وزيتاً. وفتح بوابة من بوابات المعرفة وأعاد طقساً من طقوس الثقة حيث قصور الرئاسة ليست مجرد أسماء يدرسها الطلاب في مناهج التاريخ، أو عناوين لأخبار في صفحات الحوادث حيث سرقة هنا ونهب هناك، أو أخباراً متداولة عن نهب مال عام هنا أو إهمال مزمن هناك، أو موقف ميكروباص عشوائي أو محطة توك توك طائر، أو رصيف متاخم متحول ساحة عرض لبضائع مضروبة من قبل ممالك الباعة الجوالين. ابن السابعة صحح لابنة الثامنة معلومتها المتداولة حول حفل الرئيس الجديد ليلاً في قصر الاتحادية ناهراً إياها وطالباً منها ضرورة الدقة قبل التفوه بالمعلومة. «السيسي عازم ناس على الغذاء هنا (مشيراً إلى قصر الاتحادية) لكن الحفلة الكبيرة ليلاً هناك (قصر القبة)». وبين قصري القبة والاتحادية مسافة صغيرة، لكنها في ظل التشديدات الأمنية والتهديدات الإرهابية والمشاعر الوطنية تبدو طويلة صعبة، أو ربما هي عسيرة مقلقة، لكنها بكل تأكيد بدت يوم أمس مزينة متفائلة، وإن كان تفاؤلاً مشوباً بالحذر والترقب سمتي المرحلة. المرحلة التي تجعل من أحاديث القهاوي ومناقشات المواقف وحوارات الازدحام تحكي وتتحاكى عن رئيس سابق يسلم مقاليد الحكم لرئيس حال من دون أن يلتصق بالكرسي أو يتمسك بشرعية تبددت في هواء الإرادة الشعبية أو يسجن في قضية فساد أو تقطيع أواصر هوية وطنية هي نفسها التي جعلت من المصريين في يوم عطلتهم الفجائي ينزلون إلى الشوارع ويجتاحون الميادين، ليس فقط للرقص والطبل والزمر ولكن للفرجة على مشهد رأوه آخر مرة في أفلام الأبيض والأسود حيث شوارع مخططة مرورياً، ومبانٍ مغسولة حكومياً، وحدائق مزروعة بستانياً، وأعلام مرفوعة طوعياً، وطرق ممهدة مرورياً. كل من مر في شوارع القاهرة في هذا اليوم تذكر بالأمس القريب كيف كان المواطنون يسبون ويلعنون إغلاقات الرئيس السابق حسني مبارك للشوارع بسبب ومن دون، وكيف وقفوا شهوداً على تنامي وتصاعد حجم موكب سلفه الدكتور محمد مرسي حتى قيل إن موكبه جيئة وذهاباً كان الأكبر في تاريخ الرؤساء المصريين، ومن هم أكبر سناً استحضروا موكب الرئيس الراحل السادات الذي تحول من البر إلى الجو بعد تنامي الأخطار الأمنية والتعقديات المرورية، ومن ظل أعتى سناً استدعى ذكريات الزمن الجميل وقت كان موكب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يكاد يحمل على أعناق المواطنين حباً. حب مشوب بالحذر، وحذر مخلوط بالفرحة، وفرحة قوامها الأمل، وأمل قائم على الرجاء، ورجاء لا يعتمد إلا على شعب كل الفساد، ومل الانتظار، وأنهكته المخططات وأتعبته المؤامرات، وحن إلى وطن ههدده الإخوان بالبيع بنظام التجزئة، وتاق إلى دولة ذات مؤسسات بها خدمات وملحق بها قنوات تجعل من المواطن أكثر من مجرد رقم في اهتمام الرئيس.