أكثر من 39 عاماً مرّت على ذلك اليوم، حينما دخل علينا الأستاذ هايل غرفة الصف وصرخ قائلاً: أنتم بعثيون اعتباراً من اليوم، كان عددنا 43 طالباً وطالبة، وقال: هيا ثبتوا سيرتكم الذاتية عليها، وتابع خطبته المعتادة بحماسة عن العروبة والوطن والحزب القائد، واليسار واليمين الخائن والاستعمار، ولواء اسكندرون الخصيب، والجولان، والشيخ خزعل، وطنب الكبرى والصغرى، وسبته ومليلة، إنها أجندة بانتظاركم! هنا بادر زميلنا أسامة مقاطعاً باستحياء وقال: اسمحلي، أنا لا أريد أن أصبح بعثياً، أجابه الأستاذ صارخاً مستنكراً، ماذا تقول؟ يعني أنك لا تحب وطنك؟! هذه خيانة! ثم أشار إلينا وقال له: أين وجهك من الرفاق، نظر أسامة بوجوهنا ويبدو أنه قرأ ما بها من استنكار، ثم أطرق رأسه خجلاً مكرراً رفضه الانتماء ل «البعث»، عندها ما لبث الأستاذ أن قطع خطبته بغصةٍ وطلب منه أن يتبعه إلى إدارة المدرسة كي يعلمه حب الوطن. انسل أسامة من بيننا، مغادراً غرفة الصف وهو يرتعد خوفاً، كان الموقف أشبه بجلسة محاكمة ميدانية عربية، خلص منها الجميع إلى أن موقف زميلنا أقرب للخيانة، فتوعد بعض العتاد منا بأن يقوم بتأنيبه، بينما آخرون أقسموا أغلظ الإيمان بمقاطعته، في اليوم التالي لم يحضر أسامة إلى المدرسة، يبدو أنه كان بحاجة لاستراحة في المنزل، كي يستجمع قواه ويلتقط أنفاسه. لم يعلم أسامة أنه أقحم نفسه بالمحرمات، وأنه يطعن بالمقدس، وأنه في ديار العرب أوطان لا وجود سوى للون الواحد والنوع الواحد فقط، لم يعلم بأن المدخل إلى حب الوطن إنما يجب أن يمر عبر هذا الحبل السري حصراً (حزب البعث)، أو جبهته التقدمية، التي لم تكن إلا ديكور، حين دربها على التبعية وحرمها من جميع حقوقها إلا حقها بالتصفيق، فأدخلها غرفة العناية المشددة، ومرت بحال موت سريري بدت وكأنها تعيش في غربة عن هذا الوطن، مع أنها تشاطره جميع كرنفالاته، وبالتالي لم تجد منه، كما يقول المفكر ميشيل كيلو غير بعض «الطبطبة» على الظهر واجترار بعض الشعارات من دون تطبيق، لم يعلم زميلنا بأن مستقبله تحطم، حتى لو حصل على إجازة جامعية بامتياز، ذلك ما دعاه لمغادرة هذا الوطن عله يظفر ولو بحلم صغير، بينما تهمة الخيانة ظلت تؤرقه والخوف والكوابيس بقيت تطارده حتى وهو قابع بعيداً في بلاد المهجر، هكذا رافق الخوف والقلق الراحل محمد الماغوط بقوله: «لأني منذ الطفولة وحتى الآن كلما تحركت ستارة، سترت أوراقي بيدي كبغي ساعة المداهمة». أكثر من 39 عاماً مرت ولا يزال «هايل» يطل علينا محتفظاً بمفردات قاموسه المزودة بشتى أنواع الاتهام والتخوين لإلصاقها بكل من يخالفه الرأي، شاهدته في ربيع «آذار» هذا العام وهو يتصدى لبراعم الحرية، التى اعتقدت بأن فضاء هذا الوطن ملك للجميع، وكل ما كانت تسعى إليه هو رفع سيف الظلم المتمثل في سيء الصيت (قانون الطوارئ) الذي يجثم على صدر هذا الشعب منذ قرابة «50 عاماً» والإفراج عن معتقلي الرأي كافة، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور، التي تعطي لحزب البعث الحق بتملك البلاد والعباد، والحد من تغوّل أجهزة الأمن وتدخلها بكل مفاصل الحياة، إلى جانب تفعيل مبدأ فصل السلطات، الحاضر الغائب، الذي يضمن استقلال القضاء والعودة لمنطق القانون، تلك البراعم التي عمل أصحاب الرؤوس الحليقة على دوسها قبل أن تزهر وقبل أن يشتد عودها، فهي أشواك يجب سحقها قبل فوات الأوان، الحكمة الإسبانية تقول «عندما ينبت الشوك في الربيع يستطيع الإنسان السير عليه حافي القدمين، لكن عندما يأتي الصيف فإن قطيعاً من الفيلة يعجز عن السير عليه». إنها فضيحة حضارية، فلنستيقظ من هذا الليل الذي طالت ظلمته، فلحق العرب منه تخلفاً وانحداراً باتوا فيه على شفير هاوية! أجل إنها فضيحة إنسانية أن نطفئ كل شمعة قام أحد الحالمين بإشعالها كي تنير سماء الوطن، فضيحة أن تهدر دماء شبابنا التواقين لتلك الحرية التي جعلها حزب البعث ثاني أهدافه التي سعى لتحقيقها، والحرية هي مطلب أساسي في حياة الشعوب، نحن نعيش في القرن ال «21» ومحاكم التفتيش أصبحت من الماضي، ومن أبسط حقوق الإنسان صون كرامته وضمان ممارسة حريته، ولا غرابة في الأمر أن تكون الطيور والحشرات تعيش بروح جماعية متعاونة، وتمارس الديموقراطية عن طريق التشاور الجماعي، هذا ما توصلت إليه دراسة جامعية في بروكسل... وأخيراً نختتم بما قاله الراحل محمد الماغوط: «أليس من العار بعد كل هذا التطور الحضاري والعلمي الذي حققته البشرية، وبعد مئات الجمعيات وآلاف المدارس التربوية والفنية والأدبية والمسرحية والفندقية التي تغطي أرض الوطن العربي أن تظل لغة الحوار الوحيدة بين السلطة والمواطن هي الرفس واللبط وشد الشعر». محامٍ [email protected]