بعد مرور سنوات ست على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأربع سنوات على إصدار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 1757، الذي تشكّلت بموجبه المحكمة الخاصة بلبنان، صدرت لائحة الاتهام الأولى عن المحكمة، والتي سمّت أربعة عناصر من «حزب الله». وكان السيد حسن نصرالله قد حذّر سابقاً من أن الوضع بعد صدور لوائح الاتهام سيكون مختلفاً جداً عمّا كان قبله. وفي خطاب ناري، ألقاه يوم السبت الماضي، جدّد نصرالله اتهاماته للمحكمة بأنها أداة أميركية – إسرائيلية، وحذّر من انه لن يكون بإمكان اي سلطة او حكومة – لا حكومة ميقاتي ولا حكومة الحريري السابقة - «توقيف المتهمين لا في 30 يوماً أو 60 يوماً أو 30 سنة أو 300 سنة». جاء توقيت اتهامات المحكمة الدولية بمثابة ضربة قوية لحكومة ميقاتي، التي كانت تأمل في الحصول على بضعة أسابيع أو أشهر من الزخم قبل أن تواجه قضية المحكمة، كما أن ردّ نصرالله القوي، الذي أكّد أنه لن يُسمح لأي حكومة لبنانية بالتعاون الفعلي مع العدالة الدولية وبممارسة السيادة الوطنية أو سيادة القانون، أحرج الحكومة أكثر فأكثر. ومع هذا، دخل لبنان فعلاً مرحلة جديدة ستؤدّي فيها تداعيات لوائح الاتهام والمحكمة إلى تصعيد التوتّرات، وسيلُقي ذلك بظلاله الكثيفة على الحياة السياسية والأمن في البلاد. من الناحية الإجرائية، يؤكد الرئيس ميقاتي ان حكومته ستواصل التعاون مع المحكمة، وأنها تحرّكت لتنفيذ أوامر الاعتقال لكنها لم تتمكن من العثور على المتهمين الأربعة. هذا الوضع يمكن أن يستمر لسنوات عدة، كما في حالة القائد العسكري لصرب البوسنة راتكو ملاديتش، الذي أُدِينَ في العام 1995، لكن لم يتم إلقاء القبض عليه إلا بعد ستة عشر عاماً في أيار (مايو) 2011. وكانت أسماء معظم المتهمين الأربعة في قضية اغتيال رفيق الحريري ظهرت في تسريبات سابقة، ومن المؤكد أنه تم اخفاءهم منذ زمن، في لبنان أو إيران أو في أماكن أخرى. وتقول الحكومة أيضاً إنها ستحافظ على دفع حصتها من الدفعات المالية التالية إلى المحكمة، وستُبقي على القضاة اللبنانيين فيها. والواقع، أن ميقاتي قد يجد حلاًّ وسطاً إجرائياً يُواصل بموجبه التعاون التقني لحكومته مع المحكمة، لكن من دون أن يكون قادراً على الوصول إلى المتهمين الأربعة – فتتجنّب حكومته الصدام مع «حزب الله»، كما تتجنب ايضاً مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، فيما قد يتوقع ميقاتي ألاّ تحرز المحكمة سوى تقدم بطيء. على أي حال، إذا لم يتم العثور على المتهمين، ستباشر المحكمة أعمالها وتعقد محاكمات غيابية. ومن المرجح أن تستمر هذه العملية لسنوات، وسيكون للمعلومات والأدلة التي يتم كشف النقاب عنها أصداء قوية في لبنان والمنطقة. وربما تؤدي مداولات المحاكمة أيضاً إلى لوائح اتهام جديدة. علاوة على ذلك، قد تكون لوائح الاتهام أيضاً جزءاً من دينامية أوسع، يمكن أن تكون لها عواقب أكبر، إذ وردت تقارير إخبارية عدة غير رسمية تشير إلى أن ما تم تسليمه الأسبوع الماضي لم يكن سوى الشق اللبناني من لوائح الاتهام، وأن المحكمة قد تقدّم مجموعة أخرى من لوائح الاتهام في وقت لاحق هذا الصيف إلى السلطات السورية، تتضمن تسمية مسؤولين كبار في النظام. وكانت ثمة أيضاً تكهنات بأن المحكمة قد تنتهي إلى تضمين القرارات الاتهامية أسماء مسؤولين إيرانيين أيضاً. يأتي كل هذا، فيما وضعت الأزمة في سورية النظام في دمشق تحت رحى ضغط شديد، كما أنها قلّصت إلى حد كبير قدرته على ممارسة نفوذه في لبنان والعراق وفلسطين والساحات الإقليمية الأخرى، وسيكون من شأن بروز قضية المحكمة في هذا الوقت - وخاصة إذا انتهت أيضاً إلى شمول مسؤولين سوريين - سلاحاً قوياً في يد المجتمع الدولي، فضلاً عن معارضي إيران وسورية و «حزب الله» في المنطقة. بعبارة أخرى، قد لا تكون قضية المحكمة مجرد مسألة داخلية لبنانية، بل هي ربما تؤشّر الى تدشين جولة جديدة من التصعيد الدولي والإقليمي تشمل لاعبين إقليميين ودوليين كبار. سورية ستكون في قلب هذه الضغوط، فعلى الرغم من أنه يستحيل معرفة المسار الذي سوف تتخذه الأحداث فيها، إلا أن من المؤكد أن العودة إلى الوضع السابق لم تعد ممكنة، وأن سورية الجديدة ستكون لها مجموعة جديدة من الترتيبات الداخلية والخارجية. وفي سياق عملية الضغط على سورية، من المرجح أن يتم استخدام المحكمة كواحدة من هذه الأدوات. وكما هو الحال في قضية تفجير لوكربي، قد تستمر الإجراءات القضائية في الوقت نفسه الذي تجري فيه المفاوضات السياسية من وراء الكواليس. ومن حيث الضغوط الاقليمية والدولية على سورية، قد يُستعمل سلاح المحكمة في سياقات عدة، فهناك من يريد الحفاظ على نظام الأسد ولكن يضغط عليه كي يتقاسم السلطة مع الأغلبية السنّية، ويوسّع نطاق الحريات والمشاركة السياسية، ويبتعد عن التحالف مع ايران و «حزب الله». لكن هناك ايضاً من بدأ يفكر جدياً بأن النظام لم يعد قابلاً للإصلاح او الإنقاذ، ومن ثم يدعو إلى ضرورة التسريع في تحضير سيناريو لتغيير النظام يتضمن بروز قيادات عسكرية ومناطق متمردة، وتشكيل هيئة او سلطة انتقالية. والواقع، أن قضية المحكمة استُخدمت للضغط السياسي في أواخر العام 2010، عندما كانت سورية والمملكة العربية السعودية ترعيان محادثات للتعامل مع قضية المحكمة كجزء من تسوية سياسية وأمنية أوسع في لبنان، وهي ما كانت تعرف بمحادثات (س – س). وقد أدى انهيار هذه المحادثات إلى سقوط حكومة الحريري، وتسمية الرئيس ميقاتي، ودخول لبنان في حقبة جديدة تتميّز بالمواجهة والاستقطاب السياسيين. وبالفعل، تصاعدت حدة المواجهة مع نشوب حرب كلامية بين حركة 14 آذار وبين رئيس الوزراء ميقاتي، وتجلى ذلك بوضوح في الجلسات العاصفة التي عقدها البرلمان اللبناني هذا الأسبوع. وعلى الرغم من أن العديد من أعضاء حكومة ميقاتي اختاروا حصصهم وحقائبهم الوزارية كي يكونوا في وضع جيد للانتخابات البرلمانية في العام 2013، إلا أن هذه الحكومة قد لا تعيش فترة طويلة، فالتوترات المحيطة بالمحكمة، والتطورات السياسية المتصلة بها وبالوضع في سورية، قد تفضي إلى تبدلات وتسويات سياسية جديدة وتوازنات قوة مختلفة في الأشهر المقبلة. وإذا تمّ التوصل إلى أي ترتيبات سورية او إقليمية جديدة، فمن المرجح أن ينعكس هذا على موازين القوى والاجواء السياسية في لبنان، وقد يعني تصعيد التوتر بشكل كبير في الشارع اللبناني، او الوصول إلى اجواء تسووية وتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة في لبنان، وحينها قد يكون عمر حكومة الرئيس ميقاتي الحالية من عمر حكومته الاولى العام 2005، اي بضعة شهور لا اكثر. وفي كل الأحوال، فإن لبنان قد دخل فعلاً مرحلة جديدة من الضغوط والتقلبات، عنوانها البارز هو المحكمة الدولية، لكن العنصر الأكثر تأثيراً هو ما ستؤول اليه الأزمة في سورية والضغوط الإقليمية والدولية المتعلقة بها. * مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط - بيروت