تشكل العروبة المكون الأساسي في هوية عمر شبلي المركبة، فهو مترع بها حتى الجمام. وهو مذ سقط كحجر في ماء الحياة، ذات يوم من العام 1944، راحت دوائر انتمائه تنداح بدءا من الصويري، وتتسع، على الزمن، لتشمل البقاع ولبنان والأمة العربية، وتلامس ضفاف الإنسانية. على أن الدائرة الأحب إلى قلبه هي الدائرة العربية: عمر شبلي قومي عربي حتى العظم، وهو دفع غاليًا ولا يزال ثمن هذا الانتماء. لذلك، من الطبيعي أن ينال نصيبه من الوجع العربي، ويحظى بقسطه من الفرح العربي، على قلته، وأن يحول وجعه وفرحه إلى قصائد تتدفق في هذه الصحراء العربية المترامية الأطراف، وآخر أنهاره التي نستحم فيها اليوم «آذان الحكام لها حيطان» (دار العودة- بيروت). ينطلق عمر شبلي من المثل الشعبي «الحيطان لها آذان» الذي يرفع الحيطان إلى مرتبة الإنسان، ويمنحها القدرة على الإصغاء، ويجترح منه عنوان مجموعته الشعرية «آذان الحكام لها حيطان» الذي ينزل بالحكام الديكتاتوريين إلى مرتبة الحيطان، فيغيبون عن السمع، ويصمون آذانهم دون وجع المحكومين. وبذلك، يشكل العنوان مدخلاً مناسبًا إلى المجموعة التي تقوم بنيتها الكبرى على التنازع بين الحاكم والمحكوم. وتشكل عناوين القصائد الثلاث الطويلة التي تتألف منها المجموعة انعكاسًا للمكون العربي في هوية الشاعر، من خلال اشتمالها على مفردات: القدس، الموصل، مصر وتونس. ويأتي تكرار هذه المفردات في متون القصائد ليعكس عمق الانتماء في داخل الشاعر ودخيلته، ومدى تلذذه بتكرار هذه الأسماء الحسنى. يتكرر اسم مصر خمسًا وسبعين مرة، واسم القدس أربعًا وثلاثين مرة، واسم الموصل تسعًا وعشرين مرة، واسم تونس ثلاث عشرة مرة. تتدفق قصائد عمر شبلي كنهر، وتطول كملحمة، فتمتد قصيدته الأولى في القدس على أربعة وثلاثين مقطعًا، يتراوح طول المقطع الواحد منها بين سطرين شعريين اثنين، في الحد الأدنى، وستين سطرا شعريًا، في الحد الأقصى، وتشغل خمسمائة وتسعين سطرًا شعريا. وتمتد قصيدته الثانية في الموصل على أحد عشر مقطعًا، يتراوح طول المقطع الواحد منها بين سطرين شعريين اثنين، في الحد الأدنى، وسبعة وستين سطرا شعريًا، في الحد الأقصى، وتشغل ثلاثمائة وثلاثةً وستين سطرًا شعريًا. وتمتد قصيدته الثالثة في مصر وتونس على سبعة وعشرين مقطعًا، يتراوح طول المقطع الواحد منها بين سبعة أسطر شعريًة، في الحد الأدنى، وثلاثة وأربعين سطرًا شعريًا، في الحد الأقصى، وتشغل ستمائة وتسعةً وعشرين سطرًا شعريًا. أما عدد الكلمات في السطر الشعري الواحد فيتراوح بين كلمة واحدة وتسع كلمات. وهكذا، تتفاوت القصائد في عدد المقاطع والأسطر، من جهة، وتتفاوت في وتيرة التدفق ودرجة الشعرية، من جهة ثانية. فدرجة الشعرية تختلف بين القصيدة التي تتدفق على رسلها مدفوعةً بقوة الانفعال، كما في «زيت قناديل القدس دماء»، والقصيدة التي يتحكم فيها الشاعر بسرعة التدفق ويخضعها لقوة الفعل الفني، كما في «بين يدي الموصل»، بحيث ترتفع درجة الشعرية في الثانية أكثر من الأولى. في مجموعته، يرصد عمر شبلي بقرون استشعاره الشعرية الواقع العربي وتحولاته، وتتقمص «الأنا» الشاعرة «النحن» القومية، فيهول هذه «الأنا»/ «النحن» ما يتردى فيه الواقع العربي من: عجز عن الفعل، واستقالة من التاريخ، وطغيان المحتل، واستشراء القمع، وازدهار السجون، واستبداد الحكام، وخنوع المحكومين، ونفاق رجال الدين، وفشل المؤتمرات، وكثرة الجعجعة وقلة الطحين...، ويهولها ما يتردى فيه الواقع العالمي من: تعام عن الغاصب، وتواطؤ معه، ودعم له، وتآمر على المغتصب، وتخل عنه... غير أنه في مواجهة الواقع القاتم، على المستويين العربي والعالمي، لا يفقد الشاعر إيمانه بقدرة الأمة على النهوض، ويراهن على الطفل العربي، ويؤمن بحتمية الانتصار، وينتظر مخلصا يثق بقدومه... يستمد من الإيمان والرهان والانتظار القدرة على الاستمرار ومتابعة النضال. يقول: «عربيا سوف أظل، وسوف تظل القدس/ ترتل قرآنًا عربياً/ لا لحن به» (ص 23، 24). وما إن تهل بشائر الربيع العربي في تونس ومصر حتى يعلن انحيازه له، واحتفاءه به، ورهانه عليه. يخاطب مصر بقوله: «ويا مصر سوف تجيئين من غيمك العربي/ رأيتك أنت/ فقمت من الموت ثانيةً، ولبست/ دموع الفرح/ ولبست مع الغيم قوس قزح» (ص 79). ويخاطب تونس بالقول: «ويا تونس الخير/ شعبك حين أراد الحياة استجاب القدر» (ص 117)، ولا تخفى، هنا، الإحالة إلى الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي. إن القصائد الثلاث التي تتألف منها «آذان الحكام لها حيطان» تتشابه وتتقاطع في مراجعها، وإحالاتها، وموضوعاتها، وتقنياتها. ولعلها تشكل قصيدةً واحدة، طويلة، ضمن إطار سردي، ومضمون درامي/ غنائي، ونفس ملحمي واضح. وهي مشحونة بثقافة صاحبها الواسعة، العميقة، لا سيما في مكوناتها: الدينية والتاريخية والأدبية. والقصيدة، عند عمر شبلي، ليست مجرد كلام موزون، موقع، يجمع بين العقل والعاطفة والصورة الشعرية، بل هي نص معرفي بامتياز، سواء بمتنه أو بالعتبات التسع التي يروس بها مقاطع القصيدة الأخيرة، وتنخرط في علاقة جدلية مع المتن. يستثمر الشاعر في نصه معارفه المتنوعة مستندًا إلى ذاكرة حديدية، وقدرة كبيرة على الهضم والتمثل، و «معدة قطيعة». يوظفها توظيفًا شعريًا في القصيدة مستخدمًا تقنيات: التكرار، والتناص، والترميز... لذلك، تكثر الإحالات إلى مراجع دينية، وتاريخية، وشعرية، و «جغرافية»، وثقافية عامة. ويترواح حضور هذه المراجع بين الحضور الظاهر، في حالة التضمين اللفظي، والحضور الخفي، في حالة التناص المعنوي. ومن المفيد أن نعرج، باختصار، على كل من التقنيات الآنفة الذكر، إذا ما أردنا إضاءة القصيدة ال عمر-شبلية. التكرار على رغم تعدد صيغ الكلام والانتقال من صيغة إلى أخرى، ضمن القصيدة الواحدة، في حركية واضحة تضفي عليها الحيوية والتنوع، فإن صيغًا بعينها تكررت كثيراً، لاسيما صيغتي النداء والاستفهام؛ فالشاعر يستخدم صيغة النداء ستًا وسبعين مرةً في قصيدة «القدس»، وسبعًا وأربعين مرةً في قصيدة «الموصل»، واثنتين وخمسين مرةً في قصيدة «مصر وتونس». وتتراوح وظائف هذه الصيغة بين: لفت سمع المنادى، وتلبية ما يطلبه المنادي، والاستنجاد به، وطرح السؤال عليه، والشكوى إليه، وغيرها... على أن الوظيفة الأكثر استخدامًا في هذه الصيغة هي لفت سمع المنادى وجذب انتباهه. وهو يستخدم صيغة الاستفهام سبعًا وخمسين مرةً في القصيدة الأولى، وثلاثاً وثلاثين مرةً في القصيدة الثانية، وإحدى وعشرين مرةً في القصيدة الثالثة. وهنا، يتناقص استخدام هذه الصيغة من قصيدة إلى أخرى، في إشارة إلى أن الشاعر قد تعب من طرح الأسئلة أو أنه وجد أجوبةً عن بعضها فلم يطرحه مجددًا. وتتعدد وظائف هذه الصيغة، بدورها، وتتراوح بين: الإنكار، والرفض، والاحتجاج، والتعجب، والتفنيد، والتبرم من واقع الحال، والثورة عليه، والتطلع إلى غد أفضل، وغيرها... إلا أنه لم يستخدمه مرةً واحدةً في إطار الاستفهام. ولعل ما يفسر إكثاره من استخدام هذه الصيغة الأخيرة هو أن الشعر معني بطرح الأسئلة أكثر من تقديم أجوبة. هاتان الصيغتان تجعلان الشاعر ينخرط في حوار مع موضوعه؛ يناديه متلذذًا بتكرار اسمه، ويطرح عليه الأسئلة منفسًا عما يجيش في صدره، وبذلك، يوفر الشاعر لقصيدته مناخًا دراميًا يعزف على وتر الأسطورة لا سيما في قصيدته الأخيرة، ويحول الموضوع إلى شخصية شعرية، يلعب هو دورًا مزدوجًا في علاقته بها، هو دور المحاور، والراوي الشعري. التناص إن معرفية النص الشعري، عند عمر شبلي، تتحقق، في شكل أساسي، من خلال التناص، وهو يستخدم هذه التقنية على مستويي العتبات والمتون؛ فعلى المستوى الأول، يصدر تسعةً من مقاطع قصيدته الأخيرة بتسعة نصوص قصيرة تتوزع على: التصريح السياسي، والحوار المسرحي، والخبر الإذاعي، والشعار الثوري، والقول الشعري، والحكمة الفلسفية. يلعب الواحد منها دور الترويس والتصدير والتمهيد والتجادل مع المقطع الشعري. وعلى المستوى الثاني، يستخدم الشاعر التناص اللفظي الظاهر أو ما يعرف، في الاصطلاح البلاغي، بالتضمين، فيورد سبعة أبيات شعرية، وستة أشطر، وبعض الآيات وبعض الأمثال العربية، ما يغني النص. ويستخدم التناص المعنوي الخفي، فيرجع نصه أصداء معتقدات دينية ووقائع تاريخية، ما يمنحه هويته، ويشحنه بطاقة دلالية إضافية. وفي هذا النوع تحديداً، تتبدى قدرة عمر شبلي على هضم المعارف وتوظيفها في المكان المناسب، فتغدو جزءًا من نسيج النص وليست عنصرًا غريبًا عنه أو مقحمًا عليه. أما التقنية الثالثة التي تتحقق من خلالها معرفية النص فهي الترميز، بحيث يكثر الشاعر من استخدام الرموز على أنواعها، وتطغى الرموز الإيجابية على السلبية، ما يجعل المنظور الشعري إيجابيًا، على رغم سلبية الواقع. وتتوزع على: الرموز الدينية، والتاريخية، و «الجغرافية»، والزراعية. وهي تعكس مكونات ثقافة عمر شبلي، وتفتح نصه على آفاق زمكانية متنوعة. «آذان الحكام لها حيطان» صوت شعري صارخ في برية هذه الأمة، سيظل يصرخ حتى يبلغ صداه آذان الحكام فيهدم حيطانها، وحتى يدغدغ آذان المحكومين فيوقظهم من سباتهم العميق. وعمر شبلي نبع تنبجس منه أنهار القصائد، وتحفر مجاريها في برية الروح، وتزخر بالماء والطمي وما ينفع الناس حكامًا ومحكومين.