ولد محمد (صلى الله عليه وسلم) عام 571م، في وقت كان العرب لا قيمة لهم ولا ميزان، يسكنون بقاعاً قاحلة فقيرة لا تجتذب أحداً لغزوها طمعاً في غنيمة، ولا تخشى قوة من بأسها فتهاجمها دفعاً لخطرها، وأقصى ما سمحت به الدول الكبرى المعاصرة للعرب هو استغلالهم كدول حاجزة على الحدود المشتركة بين الإمبراطوريتين الكبريين، فارس وبيزنطة، أو الروم كما تسميها المصادر العربية. وفي غفلة من القوى الكبرى نزل القرآن الكريم من الله عز وجل على النبي محمد، ودعي إلى دين الإسلام، وبعد معاناة النبي مع قومه في قريش بمكة انتقل إلى المدينة لتبدأ نواة دولة الإسلام الأولى، وخلال سنوات عشر وبضعة شهور تمكن من توحيد الجزيرة العربية، وبوفاته لم تتوقف الدولة أو الدعوة، بل بدأت حركة فتوح هائلة أدت إلى دمار دولة فارس بالكامل واجتياح بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا لتنكمش الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى، وبعض جزر البحر المتوسط، وأجزاء من شرق أوروبا. هذا التحول الخطير الصادم، أدى إلى حركة فكرية واسعة في أوروبا والدولة البيزنطية للتعرف إلى أسباب فشل القوى الكبرى في التصدي لهؤلاء البرابرة وفق ما وصفتهم المصادر الأوروبية والبيزنطية، ومن بين العوامل التي لمسها مفكرو أوروبا وبيزنطة هو وجود القرآن الكريم في يد المسلمين كدستور وأساس للتشريع، ومن هنا بدأت حركة واسعة لفهم ما يحتويه هذا الكتاب. ولأمد طويل شاع بين المختصين في الدراسات التاريخية والقرآنية أن أول ترجمة للقرآن الكريم كانت في غرب أوروبا في دير كولوني عام 1143م على يد روبرت كيتون بدعم من الأب بطرس المبجل رئيس دير كولوني Coloni، حيث كان يرى بطرس أن الإسلام من وجهة نظره هو واحدة من الهرطقات المسيحية ومن شأنها أن تشكل خطراً على المسيحية الكاثوليكية، وقد طبعت هذه الترجمة عام 1543 وكتب مقدمتها مارتن لوثر وفيليب ميلاختون. وقد امتلأت هذه الترجمة بالأخطاء، وهو ما ندد به جورج سال، وقال إنها لا تستحق أن تسمى ترجمة. وفي عام 1647، ظهرت ترجمة فرنسية لمعاني القرآن قدمها أندرو دو ريور وقد طبعت مرات عدة، كما ظهرت ترجمة لاتينية عام 1698، قام بها إيطالي يدعى لودفيك مركي. وعلى رغم كل هذه المحاولات، إلا أن رأياً جديداً ظهر من خلال دراسة جديدة قام بها أستاذ التاريخ البيزنطي في كلية الآداب بجامعة عين شمس الأستاذ الدكتور طارق منصور، ومدرّسة الحضارة الأوروبية في الكلية نفسها الأستاذة الدكتورة نهى عبدالعال سالم وعنوان الدراسة هو: «البيزنطيون وترجمة القرآن الكريم إلى اليونانية في القرن التاسع الميلادي: الجزء الثلاثون نموذجاً» وقد نشرت ضمن العدد الثامن من حولية «التاريخ الإسلامي والوسيط»، الصادرة عن جامعة عين شمس. وتلقي هذه الدراسة أضواءً كاشفة على المحاولات البيزنطية الباكرة لترجمة القرآن الكريم، بحكم أن البيزنطيين هم أول من اصطدم بهم المسلمون من الأوروبيين بحكم الجوار الجغرافي. وتشير الدراسة إلى أن بعض رهبان الروم بدأوا فور انطلاق حركة الفتوح الإسلامية في تعلم العربية، وفي مقدمهم يوحنا الدمشقي (650 - 749م) الذي كان له قصب السبق في تعريف البيزنطيين ببعض آيات القرآن الكريم. وفي مطلع القرن التاسع الميلادي ظهرت محاولة شبه متكاملة لترجمة معاني القرآن الكريم للغة اليونانية البيزنطية قام بها مجهول سعياً إلى تعريف الدوائر البيزنطية الأرثوذكسية بمحتويات القرآن الكريم. ويوضح كل من منصور وسالم أن الترجمة تعمدت الإساءة إلى الإسلام، ودفعت اللاهوتيين البيزنطيين إلى تفنيده، بسبب سوء الترجمة وعدم فهم المترجم كثيراً من التعبيرات الواردة في القرآن الكريم، ومن ثم ترجمها ترجمة غير سليمة أو ترجمها في شكل صوتي، من دون إدراك لمعنى ما يترجم، ومن ثم سقط في خطأ شائع بين المترجمين يسمى Cultural Gap أو الفجوة الثقافية التي كثيراً ما تؤدي إلى إشكاليات عددية في الترجمة بين مختلف اللغات. ومن أمثلة الكلمات التي عجز عن ترجمتها كلمات: القارعة والكوثر والصمد وغيرها من الكلمات التي عجز عن نقلها على نحو صحيح فاتخذها اللاهوتيون البيزنطيون حجة للهجوم على الإسلام من دون فهم لحقيقته. ولم يقف المترجم عند هذا الحد، بل لاحظ الباحثان تصرفه في ترجمة بعض الآيات القرآنية بشيء من التصرف لتتناسب مع الخلفية الدينية المسيحية. وحفظ مخطوطة الترجمة نيقتاس البيزنطي، في مكتبة الفاتيكان، وهي مكونة من 239 ورقة تحوي كل منها 17 سطراً، كما استهلت بعض الفقرات بحروف حمراء اللون، ونشرت هذه الترجمة عام 1863. وكل ما نعرفه عن نيقتاس البيزنطي أنه من الكتّاب اللاهوتيين البيزنطيين، وأنه عاش في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي وكانت كنيته «الفيلسوف المعلم». وكلفه الإمبراطور ميخائيل الثالث (842 - 867م) الرد على رسالتين أرسلتا من المسلمين تضمنتا مسائل تتعلق بالعقيدة. وترك نيقتاس عدداً من المؤلفات من بينها كتاب تفنيد القرآن الذي من خلاله تظهر معرفة نيقتاس الدقيقة بالقرآن، حيث تضمن عدداً كبيراً من الاقتباسات القرآنية باللغة اليونانية. ويؤكد الباحثان أن نيقتاس ليس هو مترجم الآيات التي احتواها كتابه ويستشهدان برؤية كييس فيرستييغ بأن نيقتاس البيزنطي لم يكن يملك حال تأليفه مؤلفاته المتعلقة بالإسلام نصاً عربياً للقرآن، لكنه اعتمد على ترجمة لمعاني القرآن ربما أعدها شخص ما له. ويعضد هذا الرأي كريستيان هوغل الذي يعتقد أن المترجم ربما كان مسلماً من بلاد الشام. ودرس مانوليس أولبريخت البنية اللغوية لكتابات نيقتاس وبنية النصوص القرآنية التي اقتبسها، فاتضح رقي لغته وفصاحتها، في حين أن النصوص القرآنية المقتبسة كانت تحمل سمات اليونانية الدارجة، ويؤكد أن نصوص القرآن الواردة في كتابات نيقتاس البيزنطي هي كنز نادر يمكن من خلاله استخلاص كثير من سمات اللغة اليونانية المتداولة بين عامة الإمبراطورية. وبعد نقاش طويل خلص الباحثان إلى نسبة الترجمة إلى مجهول حتى لا تنسب الترجمة إلى غير أهلها وانتظاراً لكشوف وبحوث ربما تسفر عن أدلة يقينية تجزم بنسبة هذه الترجمة إلى شخص بعينه. ويتكون كتاب نيقتاس البيزنطي «تفنيد القرآن» من مقدمة وتقريظ للإمبراطور البيزنطي المعاصر له، والذي كلفه عملَ هذا المصنف، ويلي المقدمة فهرس لمحتويات الكتاب، ثم شرح مفصل لمفهوم الله في العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، وبعد ذلك لخص نيقتاس حجج المسلمين ضد المسيحية من وجهة نظره اللاهوتية. ويمكن القول إن نيقتاس اقتبس من الترجمة اليونانية للقرآن الكريم وتناول بقية القرآن تناولاً عابراً في إطار منهج عام وضعه لتفنيد القرآن. وذكر نيقتاس خطأً أن سور القرآن الكريم 113 سورة فقط، وسبب ذلك عدم ترقيم نيقتاس سورة الفاتحة معتقداً أنها مقدمة للقرآن وليست سورة مستقلة. وللتدليل على عدم دقة الترجمة اليونانية للقرآن ساق الباحثان عدداً من النماذج وبالتحديد من الجزء الثلاثين من القرآن حيث وضعا النص اليوناني للترجمة متبوعاً بترجمة إنكليزية للترجمة اليونانية ثم النص العربي، وذلك سعياً لتأكيد وجهة نظرهما. ومن الجدير بالذكر أن نصوص الجزء الثلاثين هي وحدها ما بقي من الترجمة اليونانية الباكرة للقرآن الكريم. ومن النصوص التي ساقها الباحثان بداية سورة «النازعات»، الآيات من 1 - 7، فالنص اليوناني ترجمته الإنكليزية: «By Those that send out shots and remove by removal, swim by swimming that gain advantage and direct a matter on the day in which the tremor trembles» أما النص القرآن العربي، فهو «وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً 1 وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً 2 وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً 3 فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً 4 فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً 5 يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ 6 تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ 7». وقد استعان الباحثان بعددٍ من كتب التفسير لمقابلة تفسير الآيات القرآنية بالترجمة اليونانية المغلوطة للنص العربي ومن بين هذه الكتب: تفسير البغوي وتفسير الثعلبي وتفسير ابن كثير وغيرها. ومن خلال هذه الكتب أوضح الباحثان الأخطاء الخطيرة في الترجمة حيث لم يفهم المترجم اليوناني معنى «النازعات غرقا» وما تلاها من آيات ولم يقترب من المعنى الصحيح سوى ترجمة الآية الأخيرة «يوم ترجف الراجفة» حيث ترجمها في ما معناه أنه اليوم الذي تهتز فيه الأرض اهتزازاً لكنه لم يفهم معنى كلمة الرادفة أي ما يتبع الارتجاف أي النفخة الثانية. ومن النماذج التي ساقها الباحثان: «وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ 1 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ 2 النَّجْمُ الثَّاقِبُ 3 إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ 4»، وجاءت ترجمتها كالآتي: «By the heaven and the altarikon. How do you know what the altarikon is? It is the piercing star, for to every soul of the living bengs there is a guardian it» ومن النظرة الأولى يتضح أن المترجم لم يفهم كلمة الطارق، ومن ثم نقلها نقلاً صوتياً لليونانية من دون ترجمة، حيث إنه لم يفهم أن الطارق هو اسم نجم يظهر بالليل في السماء ويختفي بالنهار، كما يتضح من الترجمة وفق ما أشار الباحثان إلى تمكن المترجم من فهم كلمة نفس (Soul)، وفسرا ذلك لورود هذه الكلمة في الإنجيل، ومن ثم لم يكن من العسير على المترجم فهمها. وفي نهاية الدراسة أوضح الباحثان أن ترجمة المجهول القرآنَ لليونانية البيزنطية لم تكن المحاولة الأولى لكنها الأكمل سبقها عدد من المحاولات من بينها محاولة الراهب يوحنا الدمشقي الذي خدم في دواوين الأمويين قبل رهبنته والذي كان: «بيزنطي الفكر أرثوذكسي المذهب شامي المولد». كما خلص الباحثان إلى أن نيقتاس لم يترجم القرآن لكنه استعان بمترجم مجهول كان يعرف اللغة العربية كلغة ثانية، ولم يستبعدا أن يكون استعان ببعض المرتدين عن الإسلام، أو ببعض الأسرى المسلمين لفهم النص العربي. ورجح الدكتور طارق منصور والدكتورة نهى سالم أن مترجم النص القرآني إلى اليونانية كان: «مسيحياً شامياً ممن يعرفون العربية كلغة ثانية أكثر من كونه مرتداً عن الإسلام، وهذا يفسر عجزه عن إيجاد مقابل يوناني لعدد من الكلمات العربية وعدم فهمه المقصود منها، وعدم إدراكه أيضاً المحسنات البديعية الواردة في القرآن الكريم في أشكالها كافة، ما أوقعه في أخطاءٍ كثيرةٍ». * كاتب مصري