في الفترة الممتدة بين عامي 1809 – 1817 كرّس بوركهارت السويسري الجنسية وقته للسفر والترحال عبر الشرق الأدنى ومصر وجزيرة العرب تحت اسم مستعار هو «الشيخ إبراهيم بن عبدالله»، والذي كان قد اختاره لنفسه، كما أنه تعلم اللغة العربية وتكلّمها بطلاقه، واعتنق الإسلام ديناً، وأعاد اكتشاف الآثار المنسية في البتراء ومعابد أبو سمبل بصعيد مصر. ولد بوركهارت في لوزان عام 1784 من عائلة سويسرية عريقة، في الفترة الممتدة ما بين عامي 1800 - 1805 درس القانون والفلسفة والتاريخ في مدينة لاييزغ وجوتينجن بألمانيا، وكانت عائلته تفضل أن يمارس المحاماة أو التجارة أو الديبلوماسية، ولكنه عندما رجع من ألمانيا إلى بازل كانت الأوضاع السياسية السائدة صعبة ولم تكن الوظائف متوافرة بسهولة وعليه غادر سويسرا ليجرب حظه في لندن متسلحاً بعدد كبير من رسائل التوصية والتعريف وهناك أمضى سنوات عسيرة وقاسية في الفترة من 1806 وحتى 1809 على رغم الشهادات والمؤهلات ورسائل التوصية التي حملها معه وبمجيء عام 1808 وعندما كاد أن يقطع الأمل في الحصول على وظيفة ما، التقى من طريق الصدفة بالسير جوزيف بانكس رئيس الرابطة الأفريقية أو «رابطة تشجيع اكتشاف المناطق الداخلية من أفريقيا» التي تأسست عام 1788 وتلقى بوركهارت تكليفاً من الجمعية باجتياز القارة السمراء من القاهرة حتى النيجر، ولتحقيق تلك الغاية أرسلته الرابطة إلى جامعة كامبريدج، حيث تعلم اللغة العربية والكيمياء وعلم الفلك وعلم المعادن والطب. وفي شباط 1809 ركب البحر متوجهاً إلى مالطا، وفى تموز وصل حلب ومكث فيها فتره ثلاث سنوات كرّسها لتعلّم العربية، والتعرف إلى طريقة الحياة العربية، وأطلق لحيته وارتدى الملابس الشرقية التقليدية واتخذ لنفسه اسم «الشيخ إبراهيم بن عبدالله» ولم يمضِ وقت طويل حتى اعتنق الإسلام وانكب على دراسة القرآن وأثناء ذلك ترجم قصة مغامرات روبنسون كروزو إلى العربية لمجرد حبه لهذه اللغة، واستغل وقته في شكل جيد فقام برحلات إلى قلب المناطق المجاورة في سورية وبلاد ما بين النهرين وزار الآثار في تدمر وبعلبك، وأخيراً في حزيران 1812 غادر حلب في اتجاه مصر واجتاز فلسطين وتابع سفره باتجاه الجنوب من طريق عمان وزار مدينة البتراء واستطاع أن يلمح أجزاء من مباني المدينة المحفورة في الصخر الجبلي الأحمر، ولعل الأثر العميق الذي تركه هذا المشهد في نفسه ينعكس بوضوح في ملاحظاته، حيث يقول «صرفت فترة 15 يوماً في الصحراء ما بين البحر الميت والبحر الأحمر وفي وسط المسافة بين هذين البحرين تقوم آثار مدينة مهيبة تقع في وادي موسى ويحتمل أن تكون البتراء فيها وشاهد مدافن ذات زخرفة رائعة منحوتة في الصحراء، وبقايا معابد وقصور ومدرجات وقنوات مياه من الغرائب والروائع النادرة التي تجعل هذه المدينة أكثر إثارة للاهتمام من أي شيء آخر شاهدته في حياتي». وعلى رغم كل الصعوبات والمخاطر التي واجهها، يبدو أنه كان يستمتع بالسفر عبر الصحراء وحيداً، ومن دون فريق مساند لرحلاته، وكتب يقول «السفر في الشرق ممتع جداً ومفضل على السفر في أوروبا حيث يفتقر المسافر إلى الهواء فهو يبقى محبوساً طوال النهار داخل عربة ضيقة. وفي المساء لا بد من أن يواجه فنادق وسخة وخدماً وقحين، ولكن السفر في الصحراء حتى وحيداً ومن دون أي من أسباب الراحة تحت وطأة الشمس الحارقة ولذع الحشرات المؤلم، له سحره الخاص». وادعى بوركهات أنه تاجر عربي من أصل هندي في رحلاته، والتحق بالقوافل حيث أمكن تأمين الحماية وضمان السلامة، ولكن هذا لم يمنع سلبه من كل ما يملك مرات عدة، ومرة كاد أن يلقى القبض عليه للظن بأنه جاسوس. وفى الحقيقة إن رحلات بوركهارت تمت تحت رعاية الرابطة الأفريقية التي تأسست في لندن عام 1788 بهدف تمويل البعثات لاستكشاف قلب القارة السمراء، التي كانت لا تزال أرضاً مجهولة، ومما لا شك فيه أن اعتبارات السياسة كان لها أثرها في هذا المجال ففي ذلك الوقت كانت بريطانيا حريصة على إدخال برزخ السويس ضمن نفوذها لحماية خط اتصال مهم مع ممتلكاتها في الهند، ويلاحظ أن بوركهارت كان يعارض كلياً روح العنصرية التي اتّسم بها عصر التوسع الاستعماري الأوروبي حيث تم تطبيق المقومات والمعايير البيولوجية لتقويم الحضارات والثقافات الأجنبية ولهذا السبب فإن الأسلوب الذي اعتمده في التعامل مع جوهريات الثقافة العربية كان من دون شك إنسانياً بكل معنى الكلمة. وإذا تحدثنا عن إنجازات بوركهارت وآثاره فإن أول العوامل التي ينبغي التشديد عليها تكمن من دون شك في: الإنجازات الجسدية الفذة التي حققها بوركهارت من خلال التعايش مع الأحوال المناخية القاسية في وادي النيل والشرق الأدنى، والمختلفة تماماً عن الأحوال السائدة في وطنه الأم وفى أسفاره عبر الصحراء، قطع بوركهارت مسافة تقارب 10000 كيلومتر، ما يضعه على قدم المساواة في مصاف ديفيد ليفينغستون وهاينريخ بارث اللذين يعتبران رائدي الاكتشافات الجغرافية في القرن التاسع عشر. وخلال الفترة الممتدة من 1810 الى 1816 سافر بوركهارت عبر مناطق وأراضٍ تتميز بحضارات عمرها آلاف السنين وبما أنه كان واحداً من أوائل الرحالة الأوروبيين ذوي الاطلاع في علم الفلسفة الإنسانية الذين زاروا الشرق الأدنى، تمكن بوركهارت من تحقيق عدد من الاكتشافات الأثرية المهمة. ومذكرات أسفاره تتضمن عدداً هائلاً من النسخ المنفذة بدقه للنقوش المحفورة في المعابد وآثار المدن التي زارها وحري بنا أن نعجب بهذا السجل الوثائقي الذي تم إعداده في ظروف صعبة إذ كان من الضروري رسم هذا النسخ باليد من دون لفت قدر كبير من الانتباه وهذا بحد ذاته يعتبر إنجازاً مدهشاً. وبخلاف الرحالة الألماني «أولريخ سيتزن» (1767 - 1811) الذي اهتم أساساً بأبحاث العلوم الطبيعية في سورية والجزيرة العربية فقد درس بوركهارت قبل كل شيء ثقافة وحضارة البلدان التي سافر عبرها مستفيداً في ذلك من معرفته الوطيدة بالأدب العربي والإسلام ويظهر أن تنكره بزي الشيخ إبراهيم قد أكسبه ثقة السكان المحليين وأتاح له مراقبة الأشياء من دون ريبة أو إزعاج بل بأسلوب ودي من التعامل مع أبناء البلد، إنها هذه السهولة في الاتصال مع الناس التي ندين لها بأعمال بوركهارت القيمة مثل مخططاته لمدينتي مكة وطبريا، وخرائط الطرق التي تتبعها والكثير غيرها. ولعل ملاحظات بوركهارت تستحوذ على أهمية علمية خاصة فهي لا تسجل فقط المعالم والمميزات الطبوغرافية للطريق الذي تبعه، بل إنه يعلق فيها أيضاً على البيئة المحيطة ويقدم معلومات عن طريقة حياة السكان في مصر والشرق الأدنى. ويصف بوركهارت كذلك التضاريس الطبيعية للأرض مثل الانتقال من صحراء صخرية إلى وادي نهر ويأتي على ذكر الأشجار والنباتات التي تنمو هناك وفي مكان آخر يقيم مقارنة بين الأرض في وادي النيل عند السد الأول والثاني، وبين جبال لبنان، وتلك الجبال المحيطة بمدينة الطائف، ولكنه نادراً ما يضع هذه الملاحظات عن الطبيعة في بيئتها المكانية ولعل قوة رواياته تكمن في الارتباط العاطفي المقرون بالوصف الدقيق للشعوب المختلفة وحضاراتها التي يأخذها في الاعتبار في حيزها الجغرافي وفي هذا المضمار ساهم ارتباط بوركهارت العاطفي مساهمة كبيرة في تطوير المعرفة الجغرافية والعرقية. وهناك وجهان للمساهمات القيمة التي قدمها بوركهارت فمن الناحية الأولى يصور تبصراً نافذاً للترابط المكاني المتبادل أي العلاقة المتغيرة بين السكان والبيئة التي يعيشون فيها. ومن الناحية الأخرى، يمكن اعتبار دراسته العلمية في هذا المجال ذات طابع كلاسيكي من حيث إنها تصف وتفسر أهم النواحي في مثل هذه العلاقة. وعلى سبيل المثال في الفصل الثامن من رواياته عن النوبة قام أولاً بجمع المعلومات الأساسية خلال رحلته عبر شرق السودان، وإقامته في شندي، ومن ثم أوجز ثروة هائلة من الملاحظات والمعلومات الخاصة به وحوّلها إلى تقرير مسهب عن الأسواق في منطقة صعيد النيل والجزيرة العربية وأكثر من نصف هذا التحليل مكرس لتجارة الرقيق كما أن التفاصيل الوافرة التي قدمها بوركهارت حول نطاق تجارة الرقيق ومحيطها الجغرافي وطريقة نقل العبيد وبيعهم تشكل صورة رزينة وجدية عن الأسلوب الوحشي الذي عامل فيه الإنسان أخاه الإنسان وكذلك تجعل هذا الفصل من كتابه ذا قيمه لا يحد منها مرور الزمن. من بين الرسائل العلمية الانفرادية التي تتكون منها مجموعة آثار بوركهارت لا يتسع المجال هنا لذكر سوى اثنين فقط: رواياته عن مكة وقبائل البدو ففي مئة صفحة تقريباً من مجلده عن الجزيرة العربية يقدم وصفاً تصنيفياً منظماً عن مدينة مكة وسكانها وشكل الحكم فيها وأحوالها المناخية والأمراض المنتشرة فيها، وحقق كذلك سبقاً إعلاميا من خلال وصف الحج إلى مكة الذي شارك فيه بنفسه في زي الشيخ إبراهيم وبما أن هذا الفصل من روايته له علاقة وثيقة بهوية بوركهارت كمسلم، وبالتالي يقدم وسيلة لفهم حياته فإنه من دون شك يشكل واحداً من الفصول الأكثر رواجاً بين مؤلفاته، وفضلاً عن ذلك فإن وصفه مدينةَ مكة مرفق بمخطط للمدينة وبتفسيرات تؤكد معرفة المؤلف المفصلة والعميقة لطوبوغرافيتها. ورسالة بوركهارت العلمية عن البدو عام 1829 تقدم صورة حية ومفصلة عن أسلوب حياة القبائل العربية وعن البيئة الطبيعية التي عاشت فيها وفي أكثر من ثلاثمئة صفحة يتناول المؤلف أحوالها المادية وتوزعها الإقليمي، ويقدم لمحة عن أوضاعها الاجتماعية والثقافية وكل صفحة من هذه الرسالة سواء كانت تتطرق إلى أهمية الجمل العربي أو العادات والأعراف المتعلقة بالزواج أو الأشكال المدهشة التي تعبر عن روح الضيافة بين البدو ما زالت حتى اليوم تشكل مادة ممتعة للقراءة على رغم أسلوبها وطابعها العلمي، وحتى الفصل المفرط في الاحتشام الذي يصف مخيمات بدو العنيزة الرّحّل يقدم الدليل على وضوح بوركهارت في التحليل وجدارته المهنية في تصوير عالم غريب ساحر. إن ملاحظات الشيخ إبراهيم تتسم دوماً بطابع التحفظ الحرج ولكنه من وقت لآخر يسقط تحفظه، ويحيد عن أسلوبه الوصفي الروائي ليقدم رأيه الشخصي، وعلى سبيل المثال في روايته عن الجزيرة العربية يبدي بوركهارت بعض التعليقات النقدية عن طريقة تنظيم الحج بين مكةوالمدينة وفى وصفه الصخور القائمة حول المدينةالمنورة يقدم تأملات تخمينية أثبتت الأبحاث الجيولوجية في وقت لاحق أنها على قدر كبير من الصحة. عند تقييم المنجزات العلمية التي خلفها بوركهارت لا بد من الإشارة إلى أن دراسته اللغة العربية وأسفاره وكتاب رواياته، قد تمت كلها ضمن فترة زمنية لا تتعدى ثماني سنوات، ولكنه مع ذلك سجل لنفسه اسماً خالداً في تاريخ الدراسات الشرقية كمكتشف الكثير من المراكز الحضارية المهمة ورائد في التعرف إلى مصر والشرق الأدنى قبل حلول العصر التكنولوجي، وكمراقب ومصور دقيق لطريقة حياة البدو، وكوسيط اتصال بين أوروبا والعالم الإسلامي. اعتنق بوركهارت الإسلام خلال إقامته في سورية وبدواعي إيمانه الراسخ به ورغبته في التعرف إلى البلد الذي ولد وعاش فيه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) انطلق من مرفأ سواكن السوداني على البحر الأحمر إلى الحجاز في عام 1814 على متن مركب مكتظ بالحجاج وفي مكةالمكرمة وجوارها أدى كل فرائض الحج وزار قبر النبي في المدينةالمنورة، وكما يمكن أن نقرأ في ملاحظاته، لم يصل بوركهارت إلى المدينة في اللحظة المؤاتية إذ كانت حينذاك جيوش محمد علي تتقاتل مع الوهابيين في الصحراء وكتابه عنهم (الذي نشر في عام 1831) ما زال يحتفظ بقيمته كمرجع جوهري أصيل كما أن علاقة بوركهارت بمحمد علي باشا تثير الاهتمام فقد وصف بوركهارت هذا الحاكم القوي لمصر كرجل داهية عنيف يتميز بروح فكاهة لاذعة ويبدو أن محمد علي قد أعطى بدوره قدرات ضيفه العقلية حقها من التقدير ففي كتابة «أسفار في الجزيرة العربية» يدرج بوركهارت وصفاً حرفياً دقيقاً لمحادثته مع هذا الباشا الرهيب. كأوروبي ومسلم استحق بوركهارت شرف وفضل ترويج سبل فهم التقاليد العربية والإسلامية ووصفه الدقيق والمفصل لمكةالمكرمة وجوارها وكذلك لشعائر الحج كانت إلى جانب الموارد العربية المحلية المصدر الرئيس للمعلومات المدرجة في دائرة المعارف الإسلامية (ليدن 1913 - 1936). من الوهلة الأولى يبدو أن بوركهارت كان رحالة هادئاً رابط الجأش، قام باجتياز الصحارى العربية من طريق الصدفة بسهولة ويسر وكأنه يجتاز حديقة «الهايدبارك» في لندن ولعلنا نكوّن هذا الانطباع لأنّ الرحالة أوجد نوعاً من الترابط والتماثل الفكري والجسدي بينه وبين البيئة، التي عاش فيها ومات فيها أيضاً وسبب نجاحه يعود إلى حد كبير إلى شخصيته الرقيقة وطابعه الودي في التعامل مع الناس. توفي بوركهارت في سن مبكرة جداً قبل أن تتاح فرصة تكريمه بجوائز ومكافآت الجمعيات العلمية الدولية ومذكرات أسفاره لم تخرج إلى الوجود في شكل مطبوع إلا بعد وفاته، ولم يدرك العالم أهمية مكتشفاته إلا بعد سنوات عدة ولم يوفر بوركهارت أي جهد أو ألم في سبيل تحقيق هذه المنجزات المهمة فقد كان يمشي مجهداً سيراً على الأقدام طوال أسابيع أو حتى شهور برفقة القوافل وفي غالبية الأحيان كان يصارع الأمراض الخطيرة التي وقع في النهاية فريسة لواحد منها، ولكن من خلال اكتشافاته قدم بوركهارت التأييد المطلق لصحة المثل العربي القائل «في السفر فائدة ومكسب». * كاتب مصري