في مقارنة قد تبدو غريبة، لفت أحد اختصاصيي «مختبر الحوسبة الكليّة القدرة» في «معهد ماساتشوستس للتقنية» إلى المزايا التي تجعل الكتاب الورقي متفوّقاً على نظيره الإلكتروني. نشرت مجلة «تايم» هذه المقارنة قبل 4 سنوات، داعية قراءها إلى عدم التسرّع في الحكم عليها قبل التمعن بها، ولو قليلاً. ورأى الاختصاصي أن الكتاب الورقي لا يحتاج إلى جهاز إلكتروني معقد لقراءته، فهو نفسه الكتاب والجهاز في الوقت عينه. وهو لا يعتمد على الكهرباء أوالبطارية، بل يُقرأ بيسر وبطريقة مباشرة. ويمكن طي الكتاب في غير اتّجاه، ومن المستطاع حمله الى الحمام وغرفة النوم والسيارة والباص من دون أدنى جهد ويكفي لتخزينه وضعه على الرف، ومن المستطاع استخدامه خارج إطار القراءة، مثل استعماله لإسناد شيء معين، أو حتى وضعه تحت الرأس في القيلولة مثلاً. لم يخل المقال من مزج للطريف مع المفيد، لكنه جدي تماماً في مقاربته، إلى حدّ أنه ذهب للقول إنه لو اخترع الكتاب الورقي بعد الإلكتروني، لنُظِر إليه كاختراع مُدهش. ليس مجرد نوستالجيا ربما يصعب على الجيل «المخضرم» من الصحافيين نسيان فترة الأرشيف الورقي. لا يكفي القول إنه يذكرهم بشبابهم، مثلاً، وليس لأنهم مازالوا يعملون في صحف تُطبع ورقياً (ربما مع نسخ إلكترونية على الإنترنت)، بل لأنها تذكِّر بتاريخ الصحافة وتطوّرها أيضاً. يخطر في البال الحديث عن تقنيات الارشيف الورقي، وأولها غرفته نفسها، وتلك الراوئح المتمازجة التي يدلّ كل منها الى «تقنية» معينة. لعل أول تلك الروائح (إذا استثنينا دخان السجائر)، رائحة الصمغ الذي يستعمل في إلصاق المواد المقتطعة من الجريدة على ورق أبيض أو سكري اللون، لأن النوع الأخير أقل كلفة. أما أقوى تلك الروائح، فتلك التي تتصل بالورق، بأنواعه المختلفة. إضافة الى الورق الذي تلصق به القصاصات، هناك الملفات السميكة التي توضّب فيها المواد، بحسب نوعها وتاريخها أيضاً. كانت تقنية التصنيف والتبويب هي أهم ما يتطلبه العمل في الأرشيف. هناك أيضاً تقنيات القص، التي تشمل المقص أو المشرط (مع مسطرة حديد في الغالب). تؤخذ الجريدة في نسختين للحصول على المواد التي تنشر على وجهي الصفحة، ثم تقص. غالباً، لا تتبع الجريدة نسقاً معيّناً في المواد التي يجب ان تؤرشف، لكن الجرائد جميعها تحتفظ بنسخة (أو أكثر)، من عدد الجريدة كاملاً. وبديهي أن الجهد اليدوي البشري هو التقنية التي تربط تقنيات الارشيف الورقي كلها. تملك تقنيات الأرشيف مزايا الوسيط الورقي كلها. أولاً، لا تحتاج إلى استعمال أجهزة، ولا إلى برامج وتدريب وغيرها. ثانياً، ربما يبدو القول مستغرَباً، ولكن الوصول الى المواد في الأرشيف الورقي كان أسهل! يرجع ذلك الى تمرّس العاملين في الأرشيف بمنهج (بالأحرى شيفرة) توضيب المواد وتوزيعها. يمكن الاستطراد قليلاً للقول ان البحث الإلكتروني يعاني من محددات كثيرة، مثل محدودية قدرة مؤشرات ال «بولين» Boolean Indicators في الوصول إلى المادة المطلوبة. ينطبق ذلك حتى على الحصول على المواد بحسب اسم المؤلف، بحكم وجود أرشيف لهذا الأمر. ثالثاً، التعامل الإنساني والتآزر الذي يأتي من العمل كفريق: يعرف معظم الصحافيين أن العلاقات التي تُنسج مع العاملين في الأرشيف هي من ضرورات العمل. ويعتقد أن مسألة العلاقات الإنسانية بين العاملين ليست مجرد إنشاء ولا نوستالجيا. لنتذكر أن الدول المتقدمة لديها بحوث مديدة عن هذه الأمور تتصل بمستوى إنتاجية العمل وتقدمه. التآكل وتهديداته يملك الوسيط الورقي في الأرشفة ميزة يجدر التأمل بها بتروٍّ، لجهة عمر الوثيقة. أولاً، كلنا يعرف أن أدوات التخزين الإلكتروني قابلة للتآكل رقمياً (تقنياً تسمى هذه الخاصية «ديجيتال ديكاي» (Digital Decay)، فيما يستمر الورق لعمر أطول، وهو أكثر ثباتاً في هذا المعنى. ثانياً، يخضع تخزين المواد الإلكترونية لمواصفات الأداة التي يجري التخزين عليها. فمثلاً، إذا جرى التخزين على أدوات «فلاش»، فإنها قد تصبح غير صالحة، ومن دون سابق إنذار. يصح الأمر أيضاً (لكن بدرجة أقل) على القرص الصلب للكومبيوتر، إضافة الى المشاكل الناجمة عن الفيروسات واختراق الشبكة الداخلية للأرشيف وغيرها. ثالثاً، وهو الأمر الأشد أهمية، أن بروتوكول الكتابة على الورق لا يتغيّر مع الوقت، ما يعني ثباته زمنياً. بإمكانك قراءة وثيقة ورق مكتوبة قبل خمسين سنة بمثل ما تقرأ وثيقة مكتوبة حاضراً. لكن الأرشفة الإلكترونية تعاني من بعبع خفي اسمه تغيير بروتوكول التطبيقات المستخدمة في كتابة الوثائق الإلكترونية. مثلاً، تخلّت مايكروسوفت عن دعم التطبيقات المتصلة بنظام التشغيل «ويندوز 95»، ما وضع عشرات ملايين الوثائق التي كتبت بتطبيق «وورد- ويندوز 95» في مهب الريح. بعد بضع سنوات، ستصبح هذه الوثائق غير قابلة للقراءة على معظم الكومبيوترات. في المقلب الآخر من المأزق نفسه، لا تستطيع التطبيقات القديمة أن تقرأ الوثائق الحديثة. لا يستطيع حاسوب عليه تطبيق «وورد 95» أن يقرأ وثيقة مكتوبة بنظام «وورد 2005» فما فوق. وراهناً، هناك برامج لترقية التطبيقات، على رغم أن الفترة الزمنية لا تزيد عن بضع سنوات. كيف يكون الحال بعد عشرين سنة مثلاً؟ حينها، بإمكانك أن تستخرج وثيقة من أرشيف ورقي وتقرأها مباشرة. أما إذا كانت على وسيط رقمي، فمن الصعب التنبؤ باحتمالات هذا الأمر. لا تنطبق هذه المشاكل على الوسيط الرقمي، ما يعني أن الوثائق المؤرشفة محمية من أثر الزمن على تقنياتها في الكتابة. بديهي القول أن التدريب على الكومبيوتر شكّل العقبة الأكثر بروزاً في فترة الانتقال من الكتابة ورقياً إلى المرحلة الإلكترونية. في الجيل المخضرم من الصحافيين، هناك من بدأ التعامل مع الكومبيوتر عندما كان يعمل بنظام «دوس» DOS، الذي كان يتطلب حفظ وكتابة سلاسل طويلة من الأوامر، وباستعمال كلمات محددة تكتب بطريقة تتغيّر بحسب الوظيفة المطلوبة. لم يكن ذلك سهلاً. وكذلك الحال بالنسبة للإنترنت والشبكات الداخلية. ما زالت مسألة «فلترة» المواد المؤرشفة إلكترونياً للحصول على مادة بعينها، أمراً يحتاج تدريباً ومراساً ووقتاً. هناك مسألة الأذونات الإلكترونية، بمعنى صلاحيات الدخول الى مواد معينة أو ملفات معينة أو مدى محدد زمنياً. لم تكن تلك الأمور موجودة في الأرشيف الورقي. يتطلب استعمال الأرشيف الإلكتروني تدريباً على نسخ المواد على القرص المرن القديم Floppy Disk (من يذكره؟ وهو نموذج آخر من المتغيرات التي يملك الورق مناعة حيالها)، ثم على الإسطوانات المدمجة (مثل التدرب على برنامج «نيرو» Nero). هناك مسائل تتعلّق بالثقة بأن أحداً لا يدخل إلى ملف ليس له. قد يعالج هذا الأمر بالأذونات الإلكترونية (مثل إغلاق ملف ما بكلمة مرور)، لكن هذا الأمر يترك آثاراً ليست معروفة راهناً، على علاقات العمل بين الزملاء. لا تحدث هذه الأمور في الأرشيف الورقي. إذا أخذت مجموعة مواد إرشيفية على أداة «فلاش» فقد لا تصل إليها، من دون سبب واضح، ويصبح من الضروري التحوّط، وصنع نسخ على أقراص مدمجة مثلاً. لا مكان لمثل هذه الأمور في الوسيط الرقمي المتمتع بالثبات في العمل، بحيث لا يتضرر إلا بالعوامل الفيزيائية المحضة (مثل التمزيق أو الحريق)، وهي أمور بإمكانها أن تضرب أدوات الوسيط الرقمي أيضاً. المستقبل للإلكتروني يملك الوسيط الرقمي أفضلية واضحة بالنسبة لكمية المواد، وكذلك لترابطها (بحسب نوع الرابط المستخدم في الأرشيف، مثل الكلمات المفتاحية والأسماء البارزة والمواضيع وغيرها). وفي حال وجود شبكة داخلية في المؤسسة، من الممكن للصحافي أن يسترجع مواد الأرشيف بصورة مباشرة، بحسب الأذونات التي يعطيها الأرشيف ومسؤولوه، وكذلك بحسب سياسة الجريدة في هذا الأمر. وينطبق الوصف نفسه على المواد البصرية أيضاً، في حال توافرها في الأرشيف الإلكتروني. وبديهي القول ان الدخول الى الأرشيف يجري تأمينه بطرق متنوّعة، ما يتيح للصحافي استعمال مواد الأرشيف من أي مكان. هذا الأمر صحيح نظرياً. من الناحية العملية، هناك مشاكل كثيرة، مثل احتمال تسرّب كلمات السر المستخدمة في الدخول الى الأرشيف الإلكتروني. هناك أيضاً مشكلة الفيروسات، وتزايد هجمات ال «هاكرز» وغيرها. من أهم ميزات الأرشيف الإلكتروني أنه يعطي كل صحافي نسخة من المواد المؤرشفة، مع بقاء النسخة «الأصلية» على حالها. عندما تدخل الى الأرشيف، وتصل إلى مادة معينة (بعد إجراء عملية البحث)، فإن ما تراه على شاشة الكومبيوتر هو نسخة إلكترونية عن المادة الأصيلة. وبإمكانك التصرّف فوراً بهذه المادة، بمعنى عدم الاضطرار إلى نسخ المعلومات أو إعادة صياغتها، بل من الممكن أن تصبح جزءاً من وثيقة اخرى (مقال صحافي أو دراسة) بصورة مباشرة. وغني عن القول ان المادة المأخوذة من الأرشيف الإلكتروني تتمتع بمزايا النص الإلكتروني كافة، مثل سهولة النسخ والقص واللصق وإنشاء روابط إلكترونية وإضافة مواد غير نصيّة (صورة وصوت) وغيرها. وبقدر ما تبدو المزايا السابقة مثيرة، فإنها تطرح مشاكل جمّة، ربما كانت الملكية الفكرية أكثرها بروزاً. ثمة من يعتقد أن الملكية الفكرية هي المشكلة الحقيقية في العصر الإلكتروني، وذلك ما يظهر في مشروع «مكتبة غوغل» Google Library الذي هو مشروع أرشيف إلكتروني اساساً، لكنه مفتوح للجمهور. وتثير الملكية الفكرية مشاكل في علاقات الصحف بعضها ببعض، وكذلك الحال بالنسبة لظواهر سرقة النصوص المتأتية من سهولة النسخ والقص واللصق. وربما تحتاج هذه الأمور إلى كلام أكثر. [email protected]