الذين اعترضوا على تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، لم ينتظروا بيانها الوزاري، لأنهم يعتقدون بأن البيان المطوي المضمر، المعدّ مسبقاً، هو الذي أنشأ الحكومة «الخفاقة» المعلنة. في الاعتقاد المذكور، جوانب وقائعية، لكن الاكتفاء بالوقائع، وبجمل الاعتراض المنبثقة منها، لا تكفي في حالة اللبنانيين، الموزعين بين أهواء وأهواء. عبارة «حكومة سورية في لبنان»، تقفز بالسامع إلى التساؤل عن المجريات والمعطيات التي جعلتها كذلك! مثلما تطرح على صاحب العبارة سؤالاً أولياً حول المسار الكفيل بإخراجها من سوريتها، أو من التخفيف من وطأة السورية، فيها على الأقل. الجواب، في معرض السورنة، وجهه الآخر سؤال يطرح على المعارضين قوامه: كيف تعدّل الحكومة وكل حكومة، وطنياً؟ أي كيف تسحب من دوائر الخارج، من دون الانعزال غير الممكن عنه، وكيف تتواصل مع «العالم» من دون الإتباع، غير اللازم، له؟ تقع الردود جميعها، في دائرة الإشكاليات اللبنانية، الموروثة والمتجددة، لذلك فإن جاهزية البنية الداخلية على الشروع في مشاريع أجوبة، ما زالت غير جاهزة حتى تاريخه. لكن العجز البنيوي، للتشكيلة الطائفية المسؤولة عن مصائر اللبنانيين، لا يلغي مناقشة ادعاءاتها، وهذه الأخيرة كثيرة ومتشعبة، ومتنازع على حمل ألويتها بين فرقاء الصنف الطائفي الواحد. على سبيل التعميم: الفساد صفة سياسية طائفية عامة، بعضها مادي يدفع في أروقة الإدارات العامة، وخارج ردهاتها، وبعضه سياسي، يدفع أمام الملأ وفوق المنابر وعبر كل وسيلة إعلامية، وضمن قاعات الاجتماعات الفارهة وخلف الأبواب المغلقة. هنا يتساوى من «يسهل مرور معاملة إدارية» مع من يفتح السبيل أمام سيل الرسائل السياسية. قاعدة المساواة: الرشوة، فكلٌ مرتش على طريقته، ووفق «مقامه» وأرجحيته الشعبية. مآل الرشوة واحد: كنز الثروة، وتحصيل السلطة، ومن ثم المزاوجة بينهما، والسعي إلى حمايتهما، داخلياً، بالاستناد إلى أهل «العصبية» الخاصة، وبالاتكاء على الخارج، الذي هو مصدر الرشوة وحاميها، والشريك في عائداتها «الوطنية». على سبيل التعميم أيضاً: بناء الدولة ليس مطلباً طائفياً، فالدولة نقيض الدويلات الطائفية، والأصح في هذا المجال، القول إن كل كيان طائفي يعمل لاجتذاب الدولة إلى مداه، لابتلاعها، وهو يستنجد بالمجال العام لتسييج مجاله الخاص وتحصينه، فإذا تعارض هذا مع ذاك، كانت الأولوية للانسحاب إلى «الداخل الذاتي» ومناوشة الآخرين من خلف أسواره. جملة من الوقائع اللبنانية السابقة تؤكد ذلك، وجمهرة من المعطيات الحالية لا تناقض ما سلف. لذلك، فإن المنادين بالدولة، من أركان الطوائف، يتبادلون «التكاذب» في ميدان هذه القضية الوطنية. في سياق التعميم إياه: الاستقلال بمعناه الجوهري متعذر لبنانياً، لأسباب لبنانية أولاً، والبقية الخارجية تأتي استتباعاً. يظهر التعذر جلياً عند طرق أبواب البديهيات والمسلّمات والمشتركات اللبنانية، المفترض أن يتحلق حولها «اجتماع ما»، فوق بقعة جغرافية محددة، تسمى وطناً. سؤال يتكرر دائماً: كيف يعرّف اللبنانيون مشتركاتهم الاستقلالية؟ أي تلك التي تجعلهم شعباً متميزاً عن غيره، ومحدداً بكينونة سياسية وثقافية معلومة، ومعرّفاً بصفته الكليّة وليس بمكوناته الجزئية! يصعب الوصول إلى جواب، والصعوبة صفة ملازمة للمسيرة الكيانية اللبنانية. لذلك، يطغى استسهال الخروج على «مسمى الوطنية» العامة، لأنها ما زالت غير مسمّاة، وينسب إلى مضمون المسمى صفات تصير بمنزلته، أو تتفوق عليه، ارتباطاً بمنزلة الفريق الأهلي اللبنانية المتفوق. ضمن سياق التفوق هذا، تندرج إضافات كثيرة بحيث لا يذكر اسم لبنان إلا مضافاً إليه «العربي، القومي، الملاذ الآمن، المقاوم...». لقد جاءت الحكومة الحالية تتويجاً لمسار انحدار فريق أهلي لبناني، سياسياً، رافقه صعود فريق آخر. صاغت الوضعيتين تطورات داخلية وخارجية، من محطاتها الأبرز، لجوء فريق داخلي لبناني إلى تعديل موازين القوى باللجوء إلى الوسائل العنيفة وانعقاد مؤتمر الدوحة في قطر، الذي أنجب اتفاقاً كرّس في جوهره تعطيل القدرة على الحكم، أي على إدارة الشأن الوطني العام، عندما أعطى كل فريق أهلي لبناني حق نقض القرارات العامة. منذ ذلك التاريخ، دخل البلد في حالة الشلل الأبرز، وشهد «المبارزات الدونكيشوتية» الأهم، التي كانت سيوفها من إصلاح وديموقراطية وممانعة واستقلالية، مثلما عرف «الصمود» الأهم، الذي كانت مادته من ارتباك وانكفاء وتكرار، ومن لزوم ما لا يلزم من عبارات دولتية. الحصيلة اللبنانية، السابقة، حكومة بلا قدرة على الحكم، أي بلا سلطة حقيقية على الأرض، والحصيلة اللبنانية المتوقعة، حتى إشعار آخر، حكومة من الطراز نفسه، يصح معها السؤال: هذه يافطة الحكم، لكن أين البلد؟ ومع كل حكومة، أي مع كل محاصصة أهلية جديدة، سيظل جائزاً طرح سؤال: هذه حكومة أي خارج في لبنان؟ في هذا المضمار، لا يكفي الاعتراض الاتهامي كبرنامج، مثلما لا ينفع النفي التبريري «السيادي»، مادة للبيانات الوزارية. * كاتب لبناني