أطلّت أزمة الديون السيادية لليونان على المشهد المالي العالمي، لتؤكد هشاشة الأوضاع الاقتصادية في بلدان الاتحاد الأوروبي والانكشاف الكبير للمصارف والمؤسسات المالية العالمية تجاه عدد من الدول. وتؤكد هذه الأزمة، وغيرها من أزمات في بلدان أخرى، أن النظام المالي العالمي يتطلب معالجات منهجية تعزز حصانة النظام وتقيه أزمات محتملة. لكن السؤال المهم الذي يجب أن يطرحه الاقتصاديون المختصون، وقبلهم صانعو السياسات الاقتصادية والسياسيون في مختلف البلدان، المتقدمة والناشئة والنامية، هو: لماذا تحدث هذه الانكشافات ولماذا تعجز الحكومات عن تسديد التزامات وخدمة الديون؟ ما من إجابات مبسطة وسهلة، كما أن الإجابات السهلة قد تشوه الحقيقة وتعطل الفهم المستحق للأزمات. ليس تراكم الديون على حكومات أوروبية عريقة خلال السنوات والعقود الماضية، إلا نتاجاً لفلسفة سياسية واجتماعية دفعت إلى زيادة الالتزامات الاجتماعية للحكومات. وأهم هذه الالتزامات تلك المتعلقة بالخدمات الصحية والتعليمية ورواتب وأجور العاملين في القطاع العام، وكذلك تعويضات البطالة ومعاشات التقاعد وعدد آخر من الالتزامات. في مقابل ذلك، ظلت إيرادات الضرائب المتنوعة والمتعددة أقل من التزامات الإنفاق العام، نظراً إلى رغبة مختلف السياسيين، من مختلف التوجهات، في إرضاء قواعدهم السياسية والاجتماعية. لذلك مُوِّل الإنفاق من خلال إحداث عجز في الموازنة وعبر الاقتراض المباشر أو بطرح سندات وأذون. لا شك في أن المعالجة الاستراتيجية تتطلب تبني سياسات تقشف مؤلمة ومراجعة للالتزامات الاجتماعية في شكل جذري. لكن هل يمكن السياسيين تقبل هذه الإجراءات بشجاعة ومواجهة الناخبين الساخطين على أوضاعهم المعيشية الصعبة في ظل تراجع الأداء الاقتصادي وزيادة أعداد المصروفين من وظائفهم؟ ويبدو أن سياسات التقشف التي اعتمدتها الحكومة اليونانية بعد قبول حزمة التعويم خلال العام الماضي، بالاتفاق مع المصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، لم تفِ بالأغراض المنشودة، ولم تتمكن الحكومة من مواجهة الالتزامات. لذلك بات تأمين الأموال اللازمة للحكومة اليونانية لمواجهة التزامات التسديد مستحقاً وضرورياً وإلا وقعت البلاد في الإفلاس بما يعني ذلك من أضرار ماحقة على اليورو والتأثيرات المباشرة وغير المباشرة في النظام المالي في أوروبا وغيرها. وكان لتردد الحكومة الألمانية في اعتماد حزمة التعويم الجديدة تأثيرات مخيفة في المصارف والمؤسسات المالية المتورطة بديون مهمة لليونان، ولذلك كانت الضغوط من الاتحاد الأوروبي والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي على المستشارة أنغيلا مركل سريعة ومستمرة، ما دفعها إلى القبول بالشروط الموضوعة. وكانت الضغوط قوية كذلك على الحكومة اليونانية للقبول ببرنامج تقشفي واضح المعالم ومؤلم حتى يمكن تسويق تلك الحزمة، ما دفع برئيس الوزراء جورج باباندريو إلى طرح سيناريوات سياسية غير تقليدية، مثل القبول بحكومة ائتلافية مع المعارضة اليمينية أو الاستقالة من منصبه. لكن باباندريو تمكّن من إجراء تعديلات على حكومته وتعيين وزير مال جديد قد يتمكن من إنجاز الإصلاحات المالية المطلوبة من الدائنين. هذا النموذج اليوناني يجب أن يشكّل درساً مفيداً لكثير من الحكومات في أوروبا وغيرها في تفادي معضلات الديون ومواجهة استحقاقاتها، ولن يقتصر الأمر على البلدان الأوروبية التي تبدو أزماتها واضحة مثل إرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، فثمة بلدان كثيرة خارج أوروبا تعاني اختلالات مالية مماثلة. أليست الولاياتالمتحدة، التي تمثّل الاقتصاد الأول في العالم، في مواجهة التزامات إنفاق هائلة في ظل سياسات ضريبية شبه متساهلة نسبياً مع فئات اجتماعية، أوصلت عجز الموازنة الفيديرالية إلى مستويات قياسية متتالية، يُقدّر أحدثها في السنة المالية الحالية ب 1.4 تريليون دولار؟ وكيف يمكن أن تحد من الإنفاق الجاري والرأسمالي في وقت يطالب اقتصاديون ورجال أعمال بزيادة الإنفاق من أجل حفز النشاط الاقتصادي؟ يؤكد ما نشهده اليوم من أزمات ديون في عدد من البلدان بأن الإصلاحات لن تكون يسيرة وستتطلب سياسات اقتصادية واجتماعية متوافقاً عليها حتى يكتب لها النجاح وتمكن الحكومات من تحقيق التوازن في الموازنات بعد زمن قصير نسبياً. وغني عن البيان أن بلوغ الديون الحكومية أو السيادية لعدد من البلدان أكثر من مئة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي يدق ناقوس الخطر ويعني أهمية المراجعة، كما يعني أن على المصارف الدائنة وغيرها من مؤسسات مالية أن تعيد النظر في سياسات تمويل العجز. وإذا أمعنا النظر في الأوضاع المالية لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فسنجد مشكلات عميقة وسياسات خطرة قد تؤدي إلى أزمات في هذه البلدان في المستقبل القريب، تضع هذه البلدان، وبعضها يمر بمخاض سياسي صعب، في حالات عجز في مواجهة التزاماتها. قد ترغب هذه البلدان في الاعتماد على البلدان الصناعية، لكن هذه الأخيرة تعيش أوضاعاً اقتصادية ومالية صعبة لن تمكّنها من مدّ العون إلى البلدان النامية. وتواجه المؤسسات المالية والمصارف الدولية معضلات ناتجة عن محدودية الموارد المالية، التي قد يذهب معظمها إلى معالجة مشكلات البلدان الأوروبية أو المتقدمة. أما بلدان الخليج الغنية التي تمكنت من تحقيق فوائض خلال السنوات الماضية بفعل زيادة أسعار النفط وتحسن الإيرادات، فيجب ألا تشعر بارتياح في ظل أوضاع مالية كهذه على المستوى العالمي، بل يتعين عليها أن تعيد النظر في سياسات الإنفاق، في ظل الوفرة، وتعالج الاختلالات البنيوية في أوضاعها الاقتصادية وتراجع سياسات الإنفاق وترشيد عمليات توظيف الموارد على أسس مجدية وموضوعية. يمرّ العالم بمرحلة اقتصادية صعبة ستؤدي إلى خيارات غير مؤاتية خلال السنوات المقبلة بما يؤدي إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي وترشيد سلوكيات الاستهلاك في البلدان المتقدمة والبلدان ذات الاقتصادات الناشئة مثل الهند والصين، بما يمثل ذلك من تأثيرات محتملة في الطلب على النفط. لذلك يُتوقع أن تتراجع عمليات التوسع في الأعمال وتقوم المؤسسات المالية بتقليص التمويل، وتضطر الحكومات إلى ترشيد الإنفاق بكل أشكاله. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت