لو أنني خرجتُ إلى العالم من بيضة طائر، لما كان هذا غريباً على الناس، سيبتسمون ويقولون: انظروا؛ كم هو فرخ لطيف، بعينيه ذهول النظرة الأولى، والزغب فوق جسده الغض يؤكد أنه يتوق للطيران. غير أني خرجتُ كما يخرج الأطفال عادة من رحم أمهاتهم، بعد قضاء المدة المقررة لتكونهم، معجزة تكونهم، لكنني كنت خفيفاً، ليس كطفل وليد ولا حتى كفرخ عصفور بل أخف. أخف حتى من الهواء نفسه. أمسكتني أمي في حضنها، ولم تغامر أبداً بتركي مع أحد لأي سبب، من دون أن تأبه بظنون الآخرين فيها. كانت تغلق نوافذ الشقة، وتتركني أطفو في السكون بهدوء، من دون أن تعرف هل تفرح أم تفزع. لم تفكر في التخلص مني. لم تكن من هذا النوع. كانت تدسني تحت الأغطية وتشد عليها بالأربطة تاركة لي الفرصة للتقلب أثناء النوم. ولم تكن تفاجأ طبعاً، بل اعتادت في الليل القيام والنظر في جو الغرفة الخافت الضوء، وتراني أطفو في نومي، بعد أن أكون انسللت من تحت الأغطية، فتلتقطني وتعيدني مجدداً إلى فراشي، من دون أن تعلم أيضاً هل تبتسم أم تعبس. لم تكن أمي معدومة الخيال، هي التي صنعت شبكة في سقف الشقة، بحيث يكون بمقدوري التشبث بها كأنها عش، ولأتحكم بواسطتها في هواء المكان الخفيف، من دون أن أصطدم بالجدران أو اللمبات المدلاة أو ريشات المراوح التي لم تكن تستعمل أبداً تحت أي ظرف. على أنها كانت تحمرُّ عند سؤال أحد الجيران عن سبب وجود الشبكة هكذا، وتقول مضطربة: إنها ديكور. لم تحب الكذب، لكنها كانت تدرك أن ثمة حقائق لا ينبغي لها الإعلان عنها للناس إلا في الوقت المناسب، وكان الناس يستشعرون ذلك وينتظرون: يا خبر بفلوس... الأحداث تحدث وحدها. حكمة خالدة. * ذات صباح لما استيقظت، وجدت نفسي أحلق كالعادة، لكن لم أر فوقي الشبكة وإنما السماء، معجزة السماء الخالدة، نسيت أمي إغلاق ضلفة النافذة، العادة منومة، تكرار الحرص على إغلاق النوافذ يوماً بعد يوم، يسرب إحساساً بالأمان والثقة، والنجاح الدائم يؤدي إلى الغرور، وما يقع إلا الشاطر. وكما هو متوقع من الناس، فإنهم عندما يرون غير المألوف ينذهلون، يرتبكون، يصرخون. كان الشارع من تحتي مشتعلاً. حتى خرجت أمي مدركة أنه الوقت المناسب لقول الحقيقة، والناس بدورهم قادرون على استيعاب كل شيء بهذه الطريقة أو تلك، وإلا ما تطوّروا عن القردة، إذ أدرجوا أمري في باب التميز لأصير كغيري من المتميزين بهذه الصفة أو تلك وعليه سمح لي ولأمي بالحرية. كانت تخرج بي واضعة يدها على كتفي، كأنها تتكئ عليَّ. كان أهون عليها أن يظن الغرباء بها المرض، عن أن يسخروا مني، وكنتُ كلما لامَست خطواتي الأرض تحت ثقلها أشعر بمتعة لا توصف وأتمنى لو خلَّفت خطواتي أثراً ما على التراب، وأجاهد لركل حجر صغير بحزائي مجرباً متعة أن أكون فاعلاً. مع ذلك اضطرت أن تربط إحدى يديّ أو قدميّ بحبل لتأمن شر الهواء، فما يدريها أن انفلت منها فجأة لسبب ما. كانت تطمح رغم كل شيء أن استقل بنفسي لذا فكرت كثيراً هي التي كانت مرغمة على الاعتماد على خيالها، أن تضع خطافاً في نهاية الحبل وتدعني أواجه به الهواء وحدي، بحيث أشبكه بأي شيء يجعلني قريباً من الأرض. إلا أنها أجّلت هذه المغامرة الخطرة، وسمحت لي باللعب مع الأولاد في الشارع، مسلمة طرف الحبل لأكبر الأولاد مؤكدة عليه أنني أمانة. كان عليها أن تجازف. كنا نربط طرف الحبل بعمود نور، أو حديد شباك، أو حجر كبير، وكنتُ أقدم للأولاد كل ما وسعني من حركات بهلوانية، تصعقهم صعقاً، مِن الفرح، وكنت أجيد كل الألعاب بما فيها المشي على الهواء منتصباً، كأنه الأرض، لكن لا يسعني أن أصف سعادتي بأنها كانت تشعرني بأنني طائر في الهواء، لأن هذا بالنسبة لي ليس مجازاً وإنما حقيقة أجاهد لاخفائها، بل أعاني منها. ولكن تلك المعاناة أكسبتني حنكة مواجهتها، إذا ما حدث وانفلت الحبل فجأة، فاندفع إلى أعلى، كأن الموج يقذف بي إلى السطح، فأتشبث بالشرفات وحبال الغسيل. حتى تملّكني الشعور بالثقة والقدرة، فلم أهتم بعقد الحبل جيداً، بل صرت لا أخشى صنع عداوات مع بعض الأولاد، وأبادلهم الشتائم والعراك. لكن ذات مرة حلّ أحدُهم طرف الحبل وعقدَه في ذيل كلب، سرعان ما رفسَه بغلٌ، فعوي واندفع بي كالسهم، وكلما التفتَ ووجدني وراءه ينطلق بجنون أكثر، يجرجرني ويقلبني ويصدمني في كل شيء. * صرف الناس أبناءهم عني، وكادوا يقاطعون أمي من كثرة عراكها معهم من أجلي. لم يكونوا معدومي الخيال، ولكنهم لم يكونوا يستخدمونه في توسيع حياتهم، وكان عليَّ أن أبدو كغيري من الأطفال علي كل حال. أذهب إلى المدرسة، ألعب، أشتري لأمي ما تريده مِن السوق. لذا لم يكن أمامي إلا ارتداء الحذاء الحديدي الثقيل الفظيع الذي جلَبته أمي مرغمة، فالواقع راح يفرض على خيالها الانضباط. صارت خطواتي على الأرض بطيئة وثقيلة لها دبيبٌ مسموع، وأنا أجاهد في عدم إظهار ألمي للناس، وأقابل نظراتهم المشجعة باللامبالاة. أعرف أنهم ليسوا طيوراً وليسوا واسعي الخيال؛ ليحبوا ذلك.