لا شيء في حديقة تقاطع شارع باتيسيون وشارع قبرص وسط العاصمة اليونانية أثينا يذكر بما كانت عليه قبل سنة من اليوم. هذه الساحة التي كانت مزروعة بأشجار كثيفة يصل عمر بعضها الى مئة عام، شكلت متنفساً لأبناء المنطقة لعقود كثيرة، خصوصاً في السنوات الأخيرة مع قدوم أفواج المهاجرين الأجانب والاكتظاظ السكاني غير المسبوق الذي بدأت تشهده المنطقة. الساحة اليوم شبه جرداء إلا من شجيرات صغيرة زرعها الناشطون من الأهالي وبضع أشجار نجت من القطع أو القلع، تجاورها خيم وأكشاك ولوحات إعلانية علق عليها الناشطون برامج فعالياتهم الثقافية المختلفة، إضافة الى صور ضخمة تهاجم رئيس بلدية أثينا نيكيتاس كاكلامانيس وتصفه ب «سفاح الأشجار» و «قاتل الأخضر» و «ناصر الباطون المسلح». القصة بدأت قبل نحو سنة عندما كلفت البلدية إحدى الشركات الخاصة بتغيير معالم المكان بهدف إقامة موقف أرضي للسيارات مع الوعد بأن يكون السطح مليئاً بالحشائش والمقاعد والأشجار. وفور انتشار الخبر عمد شبان من المنطقة الى الاحتجاج وإيقاف الجرافات عن عملها وحضرت قوة من الشرطة الى المكان لتدعم جرافات الشركة لكن العمل أوقف جزئياً وقرر الشبان التناوب على حماية المكان لمنع أي تدخل مفاجئ، وهو ما حدث فعلاً حيث جاءت الجرافات بعد أيام صباحاً بصحبة مجموعات من الشبان المفتولي العضلات الذين نجحوا في إبعاد هؤلاء الحراس القليلين. وعلى الفور بدأت الجرافات قلع الأشجار وبدأ عمال البلدية تقطيعها، ولم يتجمع سكان المنطقة الذين كانوا في أعمالهم إلا وقد كانت معظم أشجار الحديقة قطعت. بعد ذلك أعلن سكان المنطقة اعتصاماً دائماً في الساحة وتصادموا أكثر من مرة مع قوات مكافحة الشغب، فيما قاموا برفع دعوى قضائية ضد البلدية اتهموها فيها بحرمانهم من المتنفس الأخضر الوحيد في منطقتهم وذلك بالتواطؤ مع الشركة الخاصة ولأهداف بعيدة عن خدمة مصالح المنطقة، وانتهى الأمر في المحاكم بإصدار قرار قضائي يجمد سعي البلدية الى إقامة موقف السيارات في المنطقة. ومنذ ذلك الحين لا يخلو المكان ليلاً أو نهاراً من وجود متطوعين من الجنسين ومن مختلف الأعمار يعملون على حراسة المكان وإعادة تشجيره، كما تم تحويله الى منتدى ثقافي مفتوح تقام فيه يومياً فعاليات عدة مثل المسرحيات والمهرجانات الخطابية ومعارض الرسم والصور، حتى وصل الأمر بها الى استقبال بعض الفنانين الأجانب من مناصري البيئة والأفكار الثورية. ويمكن لزائر الساحة أن يلاحظ لائحات من مختلف الاتجاهات والأفكار السياسية، فمن متحمسين للأفكار الثورية إلى يساريين وناشطين بيئيين وصولاً إلى منادين بتحرير فلسطين، وناشطي سلام معادين للحروب. ويرى الناشطون أن حركتهم لن تعرف حدوداً زمنية بل هي مستمرة وهدفها إرجاع المكان الى سابق عهده من الخضرة والجمال، بل وإضافة البعد الإنساني اليه من خلال النشاطات التي يقيمونها في شكل شبه يومي. وعلى بعد مئات من الأمتار تقع حديقة أخرى أو موقف سيارات بين شارعي نافارينو وخاريلاو تريكوبي تحول الى حديقة وله قصة مختلفة هذه المرة. فالموقف كان تابعاً لغرفة تجارة أثينا وانتهى عقد إيجاره منذ أكثر من سنة وكان من المفترض أن تحوله البلدية الى حديقة عامة، لكن بعد سلسلة من المماطلات من قبلها بحجة عدم توافر الأموال وبسبب البيروقراطية قرر السكان أن يأخذوا المبادرة بأنفسهم فدعوا الإعلام الى تغطية حدث تحويل الموقف الى حديقة وتجمعوا بالفعل وبدأوا إزالة الإسفلت وإبراز التربة وزراعة بعض الأشجار والزهور وتغيير معالم المكان وحولوه متنفساً حقيقياً في وسط المدينة الطارد للزوار خصوصاً في الصيف بسبب الحر الشديد والغازات المنبعثة من عوادم السيارات. ولهذه الحديقة معنى آخر من معاني تحدي الشبان والنشطاء للسلطات فهي موجودة في منطقة إكسارخيا المعروفة تاريخياً بعداوتها للسلطات وللشرطة في شكل خاص وانتماءات شبانها للتوجهات والأحزاب اليسارية المختلفة. واللافت أنه فيما يقوم الشبان بنشاطاتهم اليومية المعتادة لا تغادر شاحنة قوات مكافحة الشغب الشارع المجاور لهم، في الوقت الذي تشهد المنطقة هجمات بالقنابل الحارقة على مراكز ودوريات الشرطة في شكل شبه يومي. وتحول المكان الى ورشة عمل أظهر فيها المتطوعون فنوناً من المهارات، فالنجارون وضعوا مقاعد خشبية كبيرة، بينما زرع آخرون نباتات وشجيرات، وأضاف الفنانون ألوانهم ورسوماتهم، كما لم ينس بعضهم وضع ألعاب للأطفال. - «يمكنك تصوير المكان، لكن رجاء لا تصور وجوهنا، ويمكنك أن تقرأ مواقفنا من البيانات الموجودة أمامك فنحن لا ندلي بتصريحات للصحافة» هكذا أجابت «سيلا» إحدى الناشطات التي كانت أتت للتو الى المكان وهي تحمل شتلات من الأزهار معدة للزراعة على استفسارات «الحياة» حول الحديقة والقائمين عليها. ويقيم المسؤولون عن هذه الحديقة نشاطات مماثلة لنشاطات زملائهم في حديقة باتيسيون اذ لديهم برنامج حافل بالنشاطات الثقافية المختلفة، فيما بدأت جمعيات واتحادات مختلفة تطلب منهم إقامة بعض نشاطاتها في الحديقة، طبعاً البرنامج ليس فيه أي يوم فراغ ومن النادر أن تجد أي جمعية يوماً لنشاطها قبل شهر من تقديم الطلب. ويطلق النشطاء على الحديقتين مصطلح «حديقة ذاتية الإدارة» في تحد لسلطات البلدية التي لم تعد تعرف كيف تتعامل مع هذه الوضعية ذاك أن الناشطين اكتسبوا تعاطف الكثيرين من السكان، ويبدو أنهم نجحوا الى حد ما في فرض هذه التغييرات على المنطقة، مستعملين خيالهم الواسع في تلوين الجدران وتغطيتها بأشكال وألوان مختلفة. ويحدثك الشبان الذين يستلقون أو يجلسون في خيامهم المتواضعة في حر الظهيرة اللاهب عن عدالة قضيتهم حيث إن البلدية سبق لها أن «خربت» عدة مناطق مزروعة بالأشجار في أثينا لتقيم فيها مرأب سيارات ولم تف بوعودها بزراعة الأشجار فوق سطوحها مكتفية ببعض المقاعد والحشائش المتواضعة. ويقص هؤلاء المتحمسون عليك قصصاً من التحايل الذي تخوضه تلك الشركات لتجني الأموال الطائلة من دون أن تقوم بالعمل المطلوب. والواقع أن هناك بعداً لا يمكن إخفاؤه في صراع البلدية مع الناشطين وهو اللون الحزبي لكل طرف منهما. فرئيس بلدية أثينا ينتمي الى حزب الديموقراطية الجديدة اليميني الحاكم، فيما ينتمي معظم النشطاء إلى قوى يسارية متعددة، وبالطبع وقفت أحزاب اليسار، بخاصة تجمع اليسار التقدمي ضد رئيس البلدية وصعدت الأمر حتى وصلت به الى قبة البرلمان. وحتى اللحظة لا تزال الحدائق «الذاتية الإدارة» قائمة في أثينا، بل ربما هي مرشحة للزيادة تبعاً لسياسات السلطات المحلية والصراعات السياسية والاجتماعية في المدينة التي تضم في أنحائها الشاسعة ملايين من اليونانيين والأجانب، خصوصاً ان تلك الفكرة المبتكرة باتت سلاحاً فعالاً في يد شبان المناطق الأخرى فيما لو فكرت بلدياتهم إلغاء الحدائق لإقامة مواقف سيارات.