في غمرة تزاحم أخبار الثورات العربية وتصاعدها ومشاهد القتل والعنف بحق متظاهرين سلميين عزل في غير بلد منتفض على نظامه الديكتاتوري، تغدو، وللأسف، المآسي الانسانية اليومية التي تتخلل هذه الأخبار شيئاً فشيئاً مجرد تفاصيل عادية عابرة يعتادها المشاهد بحكم التكرار وتبلد الشعور. بل يتم حتى إهمالها وسط التركيز على أحاديث السياسة وتحليلاتها والسرديات السلطوية المضحكة المبكية عن المؤامرة والخونة والجرذان وغير ذلك من مصطلحات تعكس مستوى من يطلقها. في خضم هذا المشهد المأسوي بثت قناة «العربية» أخيراً حلقة من برنامج «مهمة خاصة» تحت عنوان «على قارعة الحرب»، قدمتها هذه المرة الزميلة غنوة يتيم وأعدّها جورج ناصيف، على الحدود السورية - اللبنانية في منطقة وادي خالد المتاخمة لبلدتي تلكلخ والعريضة السوريتين المنكوبتين بنيران مدافع ودبابات وقناصة الجيش العربي السوري وأعوانه من اجهزة الامن و «الشبيحة»، راصدة واقع مئات بل آلاف النازحين السوريين ممن عبروا الى الجانب اللبناني من الحدود، تاركين وراءهم أحباءهم وأهلهم وبيوتهم وكل ما يملكون، للإفلات من آلة القتل السلطوية التي تحاصر وتقتحم المدن والبلدات الوادعة بأعتى الاسلحة التي كادت تصدأ على رغم وجود أراض سورية محتلة في الجولان جنوباً وفي لواء الاسكندرونة شمالاً. وكما الحال في مشاهد النزوح واللجوء على الحدود، بدا المشهد قاسياً الى ابعد مدى على رغم طبيعة المنطقة الخلابة: اطفال ونساء وشيوخ هائمون على وجوههم فروا من وطنهم الى المجهول، وهل ثمة ما هو اقسى بالمعنى الوجودي من ذلك، لا سيما وقد تركوا وراءهم ذكرياتهم بحلوها ومرّها وحملوا معهم ذكرياتهم الطازجة عن اساليب القتل والاهانة والتعذيب التي مورست في حقهم. عشرات بل مئات القصص الانسانية المؤلمة والمعبرة عن مدى الانحطاط الذي فُرض عيشه كل واحد من هؤلاء. قصصهم قد تختلف في تفاصيلها وحيثياتها، لكن ما يجمع بينها ان اصحابها قرروا اخيراً وبصوت واحد التمرد على الاستبداد الذي حول حياتهم الى جحيم. ولم تتمالك غنوة يتيم دموعها عندما اصيب احد النازحين من المعوقين ذهنياً بنوبة هستيريا حزناً وقلقاً على والدته الطاعنة في السن التي تركها وراءه في تلكلخ المحاصرة بدبابات بدت جلية عبر عدسة «مهمة خاصة». فعلى رغم اعاقته الذهنية بدا التأثر والأسى وإدراك هول الماسأة التي يعيشها هو ومن نزح معه من اهل بلدته، واضحاً على قسمات وجهه وتعابيره التي يمكن القول انها اختزلت معاناة بلدته، بل كل المدن والبلدات السورية المنتفضة. فمتى ستدرك رؤوس أنظمة القمع هول وفظاعة ما يرتكبون؟ سألتني غنوة على الهاتف قبل أيام إن كنت أوصي بشيء من وادي خالد، كونها ستعود الى تغطية الوضع على الحدود السورية – اللبنانية، فطلبت منها ان تلوح فقط بيديها نيابة عني لدبابات الجيش العربي السوري المحاصرة لبلدة تلكلخ، والتي يخيل للمرء انها في صدد معركة ضروس مع الجيش الاسرائيلي او الصهيوني، وفق الرطانة البعثية. * كاتب كردي