المواطنون الذين عرضهم التلفزيون الرسمي السوري وهم يناشدون الجيش التدخل لإنقاذهم من «العصابات المسلحة» في مدينة جسر الشغور، صورة طبق الأصل عن المناشدات التي عرضها التلفزيون نفسه في 1976 وقال إن مخاتير لبنانيين وجهوها إلى الجيش السوري للتدخل من اجل «إنقاذ المسيحيين» في لبنان، قبل أن يتبين بالتجربة الملموسة أن اللبنانيين بمختلف طوائفهم وأحزابهم كانوا في «سلة واحدة» بالنسبة إلى الحكم في دمشق. ومع أن الفارق الزمني بين ما يجرى في سورية حالياً وما جرى في لبنان آنذاك يزيد عن 35 سنة، فإن النظام السوري لا يزال يعتمد الأساليب نفسها في تبرير تصرفاته وتقديمها على أنها من مستلزمات «الدور» الذي يؤديه ل «المحافظة على الاستقرار» في المنطقة، رابطاً بين استقراره الداخلي وبين استمرار هذا الدور، من دون أدنى تطوير للمفاهيم السياسية أو الإعلامية، يتماشى مع التغيير الحاصل في العالم. لكن في حاله الجديدة، يبدو النظام السوري عاجزاً عن إدراك حدود الدور الذي ابتكره له الغرب. فهو عندما اجتاح لبنان للمرة الأولى طرح تحركه من زاوية المقايضة بين المصالح الغربية ومصالحه الذاتية، وكان «استيعاب» لبنان في ذلك الوقت هدفاً استراتيجياً للنظام السوري تقاطع مع هدف استراتيجي للغرب، وخصوصاً الأميركي، يقوم على إبعاد خطر منظمة التحرير الفلسطينية عن إسرائيل وكف يدها في لبنان. ولهذا، ساهم الغربيون آنذاك في تضخيم «الدور الإقليمي» السوري الذي كان من شروطه إبقاء جبهة الجولان السورية هادئة وكبح الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان. ومع أن فشل دمشق جزئياً في تنفيذ الشق الثاني دفع إسرائيل إلى غزو لبنان في 1982، إلا أن هامش المناورة الذي مُنح لسورية في الداخل اللبناني مكّنها من العودة مجدداً إلى بيروت لوقف الحروب المفتعلة بين حلفائها. وطوال هذه المدة تغاضى الغرب عن تجاوزات نظام دمشق في لبنان وفي سورية نفسها، وعن تقاربه المتزايد مع إيران ودعمه العسكري والسياسي ل «حزب الله»، مفضلاً الضغوط الديبلوماسية ومحاولات الإقناع الهادئة، طالما أن الشق الرئيسي من الاتفاق لا يزال سارياً. ويبدو النظام السوري كمن صدق فعلاً انه يستطيع التخلي عن التزاماته غير المعلنة من دون أن يتغير هو، فبدأ بعد تهديدات كلامية، في تهديد فعلي للاستقرار السائد على جبهة الجولان عبر إرسال آلاف الشبان الفلسطينيين لاجتياز «الحدود» بتحريض وتنظيم من فصائل فلسطينية تدين له بالولاء، فأخطأ مرتين: الأولى عندما كشف انه كان يحافظ على هدوء جبهة الجولان لمبررات أخرى غير التي يتحدث عنها، ولا سيما مقولة «التوازن الاستراتيجي» مع إسرائيل، والثانية عندما ظن أن باستطاعته فعلاً التخلي عن علة «دوره الإقليمي» التي حمته طوال هذه العقود. ولعل هذا الانقلاب على الالتزامات، بما في ذلك ما يقول الغرب انه تزويد «حزب الله» صواريخ بعيدة المدى ومحاولة بناء مفاعل نووي سري، يفسر تصاعد مواقف الدول الغربية التدريجي مما يجرى في سورية وفرضها عقوبات قاسية على دمشق وسعيها إلى إصدار قرار إدانة لها في مجلس الأمن، بعدما اعتبرت معظم عواصمها أن الحكم في دمشق فقد شرعيته، من دون أن يشغل بال هذه العواصم أي قلق على الاستقرار في المنطقة.