لا يمكن أن تغيب من الذاكرة عيون الرجال المغرورقة بالدموع وهم يتابعون انكسار الجيوش العربية في حرب حزيران (يونيو) 1967، وكيف بدت غالبيتهم غير مصدقة بأن اليهود، وهو الاسم الشائع لإسرائيل وقتئذٍ، قد هزمت العرب واحتلت أجزاء كبيرة من الأراضي في فلسطين والأردن ومصر وسورية! في تلك الأيام، كان التوقيت صعباً لدراسة الأسباب، وبينما كان الكبار يكابدون مرارة الألم والهزيمة حملنا، نحن الصغارَ، الأسئلة وبدأنا نبحث عن إجابات لتفسير ما حصل، كان ثمة مروحة واسعة من الاجتهادات وكثير من العوامل، تمتد من أحاديث عن تفكك الصف العربي وعن تواطؤ بعض الأنظمة وتغييب سلاح النفط في المعركة، إلى تفوق العدو، لسخاء الولاياتالمتحدة الأميركية وشح ما يعطيه لنا الاتحاد السوفييتي، ثم إرجاع أسباب الهزيمة إلى ذواتنا، إلى تخلفنا وجهلنا، إلى قيادات فاسدة وغير أمينة، إلى القمع والاستبداد الذي يرعى شؤوننا! منذ هزيمة حزيران والصراع يحتدم بين من يجدون أن التفوق الصهيوني المدعوم أميركياً ليس السبب الرئيس لعجزنا الوطني بل هشاشة البيت الداخلي الذي نخره الفساد والقمع والاضطهاد، وبين من يتوسلون المسألة الوطنية لتأبيد تسلطهم وفسادهم وقهر شعوبهم، وهؤلاء لم يترددوا لحظة في الاستقواء بمعاركهم الشعاراتية عن الأخطار الخارجية المحدقة وتحرير الأرض المحتلة لتشديد القبضة القمعية وشن حملات مستمرة من الإقصاء والتصفية طاولت معظم القوى الديموقراطية، من دون أن يشفع لهذه الأخيرة الدم الغزير الذي سفكته دفاعاً عن استقلال أوطانها. والأنكى عندما تطلبت مصلحة الوطن إعادة النظر بطابع وكفاية القوى التي تستأثر بالقرار السياسي بعد عجزها البيِّن عن تحمُّل مسؤولياتها الوطنية، لم تجد الأنظمة «الوطنية جداً» نفسها معنية بهذا الأمر، واستبسلت لحماية مواقعها وامتيازاتها، لتبقى استقالة الرئيس عبد الناصر بعد نكسة حزيران بادرة فريدة في التاريخ العربي الحديث. لم يكن الدرس حول أولوية تحرير الإنسان من القهر والتمييز كي نقارع العدو ونسترد الحقوق، مقبولاً قبل الهزيمة، وإن صار مسموحاً به ومسموعاً بعدها، لكن ليس لوقت طويل، فقد قطعت هذا المخاض معركة الكرامة الشهيرة في 1968، وما عرف عن نجاح المقاومين في تكبيد العدو خسائر فادحة، فبدأ المزاج الشعبي ينقلب، وسهلت العودة إلى الخطاب الإيديولوجي العتيق، الذي يقوم على أولوية المقاومة والتعبئة الوطنية وتأجيج الحماسة لمواجهة نتائج الهزيمة وآثارها، ما أضعفَ موضوعياً زخم الدعوات لإجراء وقفة نقدية مع الذات، إن لم نقل أجهَضَها، ربما لأن الركون إلى السلاح ومنطق العنف والمكاسرة هو السبيل الأقرب لنوازع الثأر والأسهل بالمقارنة مع صعوبة طريق الحريات والبناء الديموقراطي، وربما لأننا اعتدنا أمام أي كارثة تصيبنا أن نجنب الذات المسؤولية أو نخاف الكشف الجريء عن الحقائق عندما تخصنا، مفضِّلين الهروب إلى الأمام، إلى التفسيرات التآمرية أو إلى لغة الهجوم والشعارات الرنانة! وقتئذٍ اكتسح ثقافتنا شعار «الكفاح المسلح»، الذي رفعته المقاومة الفلسطينية وغدا ثابتاً من الثوابت غير القابلة للنقاش، ومنح الأنظمة العربية فرصة لم تضيعها لتتوسل لغة السلاح والقوة وتعيد صياغة شرعيتها تحت شعارات الثأر والاستعداد عسكرياً لتحرير ما احتُل من الأرض، والأهم للرد على دعاة أولوية التنمية الديموقراطية ومحاصرتهم، وتالياً لوأد ما استُخلِص من دروس الهزيمة وأسبابها، وتحديداً الدرس الأغنى والأهم المتعلق بغياب حقوق الإنسان العربي وحرياته. وبالفعل، كُلِّلت هذه الجهود بالنجاح، وتم تكريس الثقافة القديمة ذاتها، التي همشت حقوق الناس وحرياتهم وأدمنت التحلل من المسؤولية وعدم المسائلة والحساب، بل واعتبرت أي اعتراض أو نقد للوضع القائم، حتى من موقع الالتزام الوطني، هو موضع شك وتخوين، وأيَّ دعوة للاهتمام ببناء مجتمع ديموقراطي صحي هي أشبه بدعوة إلى التخاذل والاستسلام! ونظرة موضوعية الى الحصاد المر للشعارات الوطنية الطنانة، مثل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة «، تكفي لتؤكد عيانياً أنها لم تكن أكثر من رايات مضللة استخدمتها الأنظمة لتعزيز أسباب سلطانها وقهر شعوبها وحماية امتيازاتها والتنعم بما سلبته من ثروات، والتي لم يكن مِن هَمٍّ لديها سوى الحفاظ على مواقعها وخداع الناس، عبر اللهاث - على حساب حاجات المجتمع وشروط تطوره وتقدمه - لاقتناء الأسلحة المتطورة، ربما لاستعمالها في معارك الداخل أكثر مما في الخنادق وساحات القتال، الأمر الذي أفضى إلى تخريب البنية الوطنية وتدمير خلايا النمو والتجدد في المجتمع وتحويله إلى مجتمع ضعيف وخائف تتآكله أزمة عميقة متراكبة، جراء عسكرة الحياة وامتصاص طاقات التنمية وقدراتها. دار الزمن دورته، وبينما رياح الثورات تهب على المنطقة ويلفح ربيعها الوضع السوري ويضع الكرة في ملعب أولوية التغيير الديموقراطي، ثمة من يحاول إعادة تشغيل الأسطوانة المشروخة إياها، عبر الادعاء بأن ما يجري هو جزء من مخطط إمبريالي صهيوني للنيل من مواقفنا الوطنية، متوسلاً تفعيل المعركة الإعلامية ضد إسرائيل وتسخين الاحتكاك في جبهة الجولان! وإذ يستثمر أصحاب هذا الخيار حق الشعب السوري المشروع في استرداد أرضه المحتلة، ربطاً بعجز المجتمع الدولي وتواطؤ السياسة الأميركية وتعنت العدو الصهيوني، فإن الأمر يبدو اليوم شكلاً من أشكال الهروب الى الأمام، بغرض الالتفاف على أسباب الأزمة الراهنة والمرشحة للتفاقم وتمييع التعاطي مع الفرصة الأخيرة في اعتماد الخيار السياسي والاستجابة لمطالب الناس في الحرية والكرامة، وبعبارة أخرى لم يجد البعض مع تصاعد الحراك الشعبي المناهض وعجز الحل الأمني واشتداد العزلة والإدانات العالمية، غير توظيف المسألة الوطنية والأرض المحتلة واستثمارها لترميم شرعية النظام وتحسين موقعه، والرهان على ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، أولها تجيير سلاح التعبئة الوطنية لرص الصفوف وكسب المترددين، والأهم التحرر من الإحراج في ممارسة مزيد من الاضطهاد والقمع، ثم استفزاز الحاجة الإسرائيلية للهدوء والأمان، وأيضاً تمكين الأنظمة العربية من إشهار ذريعتها القديمة الجديدة للاستمرار في تبرير صمتها، فضلاً عن تمييع المواقف الدولية وتحويل اهتماماتها عما يجري في الداخل نحو تبريد حرارة الخارج. لقد قالت أحوالنا البائسة وهزائمنا المتعددة كلمتها بحق هذه العقلية، والواضح أنه ليس من هدف اليوم وراء إحياء الشعارات الوطنية والتحريرية سوى توظيفها لوأد الانتفاضة الشعبية وصد رياح التغيير وتأبيد أشكال السيطرة والوصاية القديمة، ومن وجه آخر استسهال إلصاق تهم الخيانة والعمالة بحق دعاة الكرامة والحرية، في محاولة مكشوفة لتسويغ العنف الشديد ضدهم وشق صفوفهم ولتجيير مشاعر الناس وأحاسيسها الوطنية ضد الاستحقاق الديموقراطي! * كاتب سوري