هي من أشهر الروايات الفرنسية، على رغم أن مؤلفها لا يعتبر عادة من كبار الكتاب في لغة موليير. ذلك أنها الرواية الأكثر شعبية، لا الرواية الأفضل في تاريخ الأدب الفرنسي خلال النصف الأول من القرن العشرين. من هنا نادراً ما تجد فرنسيّاً يمكنه أن يقول لك انه لم يقرأها. بل إن الأجيال الجديدة قرأتها وشاهدتها وقد حوّلت قبل سنوات عدة إلى مسلسل فرنسي لم تقل شعبيته عن شعبية الرواية. وهذه الرواية هي «آل تيبو» لروجيه مارتن دوغار، الكاتب الذي عبر فيها عن نزعة سلمية وقفت موقف الضد مما كان سائداً في زمنه لدى الفرنسيين. أما موقف الضد هذا، فكان في صدد الحرب العالمية الأولى التي انخرط فيها الفرنسيون في العام 1914 من دون تفكير عميق، وأثارت يومها سجالات حادة بينهم. طبعاً لم يخصص دوغار كل صفحات روايته لتلك القضية أو سجالاتها، بل انه كتب العمل، أصلاً، عن مدوّنات حياة عائلة خلال سنوات عدة عند المرحلة الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين... غير أن كل تلك الحياة، وإذ وصفت في أجزاء عدة تشكل الرواية في نهاية الأمر، أتت لتصبّ كلها في ذلك الموقف من الحرب، الموقف الرافض الذي يعتبر الحرب فعل قتل لا أكثر، ومكاناً يعبّر فيه الأفراد عن غرائزهم الحيوانية، ويلعب فيه الكبار القادرون الخادعون بالصغار المخدوعين. تتحلق الرواية منذ صفحات جزئها الأول، من حول شخصيتي ابني آل تيبو: انطوان وجاك، لقد ربّى الأب القاسي ولديه هذين التربية نفسها وأخضعهما للظروف نفسها، ولكن على رغم هذا كله، كانت النتيجة أن صار انطوان حين شب عن الطوق، طبيب أطفال ناجحاً، ورجل علم نزيهاً متمثلاً للقواعد الاجتماعية في انطلاقه من عقلية وضعية لا لبس فيها، فيما تحول جاك إلى متمرد ثائر على المجتمع وقيمه، رافضاً للسياسات الكبيرة. وكان هذا ما قاده في جزء تال من الرواية إلى سويسرا، حيث انضم هناك إلى مجموعة من الثوار الاشتراكيين الأمميين الذين كانوا، على مختلف مشاربهم وأهوائهم، يناضلون متحلقين من حول الأممية العالمية. وهكذا، بالتدريج، عرف روجيه مارتن دوغار كيف يؤطّر روايته زمنياً وموضوعياً... ومع هذا، على رغم أن شخصيتي انطوان وجاك تهيمنان على أجزاء الرواية، فإن هذا العمل يطاول في طريقه المجتمع الفرنسي كله على مدى السنوات الصاخبة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، وذلك في أجزاء حملت عناوين مثل «الكراس الرمادي» و«السجن» و«الفصل الجميل» و«الاستشارة»... في كل هذه الأجزاء ومهما ابتعدت رواية الكاتب عن نقطتها المركزية، تظل تعود إليها بين فصل وآخر كاشفة لنا كيف أن ما يهم الكاتب في الدرجة الأولى هنا، إنما هو تلك العلاقة العاطفية الوجدانية حيناً، والمتوترة أحياناً، التي تقوم بين الأخوين تيبو (بصفتهما على أية حال ممثلين لنمطين معينين من التفكير الاجتماعي في ذلك الحين). غير أن الرواية سرعان ما تتخذ بعداً آخر، اكثر صلابة وقوة بعد موت الأب، الذي كان على الدوام، حاضراً أو غائباً، يمثل صلة الوصل بين الرجلين. فبعد موت الأب، يأتي انفجار «صيف العام 1914» أي إعلان الحرب ومقدماتها. وهنا، إذ يبدو واضحاً الآن أن الكاتب إنما بنى في الأصل، روايته كلها، حتى يوصلها إلى هذه النقطة الانفجارية، يسهب في التوقف عند ذلك الانفجار إلى حد انه يكرس له جزءين أخيرين من الرواية - النهر هذه. ولكن على رغم هذين الجزءين وصفحاتهما الطويلة سيبدو من الجلي لنا أن الأحداث تتسارع فيهما في شكل مدهش، حيث بالكاد يخيّل إلى القارئ انه قرأ، حقاً، مئات الصفحات، خصوصاً أن نقطة الثقل في الرواية تتحول هنا إلى مجموعة الشبان الاشتراكيين من أصدقاء جاك تيبو، ومنهم إلى عالم المفكرين والمناضلين الاشتراكيين في شكل عام. هنا يبدع الكاتب في وصف كيف أن آمال الاشتراكيين في استمرار السلام تنهار شيئاً فشيئاً، وإذ ينهار معها صمود معظم الاشتراكيين في مواقفهم الأممية المناهضة للحرب، يصوّر لنا دوغار بقوة، وبموضوعية مدهشة، كيف أن القادة الاشتراكيين يقعون واحداً بعد الآخر، وعلى رغم مواقفهم السلمية، في فخ النزعات القومية التي تعيد الفرنسي فرنسيّاً والروسي روسيّاً والألماني ألمانيّاً... ويبدأ كل واحد منهم، وفي حوار بينهم وصغار المناضلين، في التحمس لوطنه وجيشه على حساب ما تبقى من أفكار أممية مناضلة، وهكذا: «يتخلى القادة ثم الصحافيون والكتاب والمدرّسون والعلماء والمثقفون في شكل عام عن استقلالهم النقدي إزاء الحرب، ليروح كل واحد منهم داعياً إلى هذه الحملة الصليبية الجديدة، محيياً كل الحقد الذي كان أبناء جلدته يحملونه إزاء أعداء الأمس، الذين عادوا اليوم - وراثياً - أعداء من جديد». وإزاء هذا كله ينهار الفكر وحتى «العمال الثوريون يجدون من الذرائع والدوافع ما يبرر اندفاع كل منهم نحو الجبهة مقاتلاً من كانوا حتى الأمس فقط رفاق قضية الاشتراكية الأممية». أما جاك فإنه يبقى مصرّاً على موقفه، مع حفنة ضئيلة جداً من رفاقه. وحتى حين يجري اغتيال الزعيم الاشتراكي الفرنسي جان جوريس أمام ناظريه، بسبب وقوف جوريس حتى النهاية ضد الحرب، لا يخاف جاك أن يبقى على موقفه، بل انه يزداد إيماناً بهذا الموقف. ثم في لحظة اندفاعة أخيرة تحمل كل شرف النضال الأممي وعبقه، يقرر جاك ورفيقه الأخير مينيسترل، أن يخوضا حربهما الخاصة، مقدمين على تحرك «نهائي منعزل وحاسم»، الهدف منه أن يخرجهما من حال العجز الذي وجد كل الشرفاء انفسهم في خضمه: وكان هذا التحرك عبارة عن طباعتهما ألوف النسخ من منشور عنيف يدعو إلى وقف الحرب والتمسك بمبادئ السلام... والأدهى من هذا أن هذين المناضلين الأخيرين يختاران الجبهة الحربية، ميدان القتال، المملوء بالجنود من الأطراف كافة لكي يوزعا هناك منشورهما. وهكذا لا يبقى أمام الكاتب إلا أن يرسم خط النهاية. وهو خط ذو دلالة، حيث ينتهي الأمر بأنطوان، شقيق جاك، إلى أن يقتل على الجبهة بالغاز الذي نفثه الألمان، في وقت كان منكباً على كتابة يومياته على الجبهة. وإذا كان روجيه مارتن دوغار (1881 - 1958) استعار تحرك جان ورفيقه في رمي المناشير من تحرك مماثل قام به مناضل إيطالي ضد الفاشية يدعى لاورو دي بوزيس، قام في العام 1933 بالطيران فوق روما مسقطاً ألوف المناشير المعادية للفاشية، فإنه عرف تماماً كيف يدمج هذا الفصل في مسار بطله جاك، ما أعطى الرواية ككل سماتها التاريخية والإنسانية معاً. ودوغار في الأصل تلقى دراسته في مدرسة للتوثيق التاريخي في فرنسا، ومن هنا احتفظ على الدوام بنزعة الدقة التاريخية، وهذه النزعة نراها ماثلة في خلفية «آل تيبو»، كما أن اهتمامه المبكر بالتحليل النفسي وعلم النفس نراه في رسمه الدقيق للشخصيات ودوافعها، في هذه الرواية، ولكن كذلك في الكثير من أعماله الأخرى، السابقة واللاحقة على «آل تيبو» مثل «جان باروا» روايته الحوارية التي قدم من خلالها نظرته الخاصة إلى قضية درايفوس، تلك القضية التي قسمت فرنسا كلها بين وطنيين معادين للسامية وأصحاب فكر حر معادين لكل عنصرية وكراهية. [email protected]