كمن انقلب رأساً على عقب، يخرج المرء من القاعة المظلمة وتلزمه برهة قبل أن يستعيد أنفاسه. ينظر حوله ويتساءل على أي أرض وقع؟ يسير كما العابرين بصمت في المشهد ما قبل الأخير محلقاً فوق الغيوم، يرى مخلوقات لا صوت لها تتحرك في كل صوب وتطل عليه السماء بزرقتها الصافية من خلال أوراق الأغصان الخضراء وتعود إليه مشاهد لم تبرحه في الأصل. «شجرة الحياة» رسمها تيرنس ماليك بعد انتظار طال، ليس مهماً إن كانت حياته أو طفولته، هي في مجملها أو في أجزاء منها صالحة لكثيرين، رواها لهم عنهم بأسلوب قل مثيله في عمقه وشاعريته. سيكون باهتا وصف هذا الفيلم كأي فيلم، حكاية الحكاية، القول أنه عن أسرة وعن علاقات أفرادها بعضهم ببعض، الأب الشديد الحزم والأم الشديدة الحنان والصبيان الثلاثة الأول والثاني على الأخص. سيكون عادياً وصف مشاعر أم فقدت ولدها... بيد أنه مع تيرنس ماليك لا شيء يعبر عادياً، سيناريو غير تقليدي وإخراج ملحمي وفيلم قصيدة تسمو بمعانيها على المتداول. نواة الفيلم الحميمية، هذه المشاعر المعقدة لطفل تجاه والده، تجاه أخيه... صاغها ماليك وقدمها كما لم يقدمها أحد من قبل. في لقطة واحدة كان في وسع هذا المخرج أن يشحن في عيني الصبي بطله الصغير كل الرغبات الشريرة، الحيرة، الحب، والندم. هذه العلاقة الأبعد ما تكون عن البساطة التي تربط أب بأولاده، تراوحها بين القسوة والحنان، لم تفت ماليك شاردة فيها، لم يغفل إحساساً، كيف يمكن أن نحب ونكره نفس الشخص؟ ليس بالكلمات وحدها بل بمواقف لا يمكن أن ينتبه لها، يخطها، سوى فنان بعبقريته. حكاية لم يحكها تيرنس ماليك متسلسلة، تنقل بين العصور ووصل بنا إلى عصر الزواحف، إلى تشكل الكون، إلى بدء الخليقة، سرح في طبيعة لا حدود لجمالها، لقسوتها وجبروتها، كالإنسان؟ كانت تعاليم الأب لابنه البكر المشجعة على التحلي بالقسوة للنجاح في الحياة، تقابلها تعاليم الأم بالحب والتسامح. والشعور المتردد بكره الأب يقابله شعور ثابت بحب الأم ومشاعر متناقضة تجاه الأخ الأصغر. لم يتوقف المخرج عند قصته العائلية فهي اندرجت ضمن مسألة لا تقل عنها تعقيداً، العلاقة مع الخالق، ومع هذا الموت الذي يفرضه على كائناته، فما هو الإيمان؟ رؤية ملحمية للإنسان وللوجود صاحبتها موسيقى تصويرية أضفت مزيداً من القلق، من الاضطراب. لو كنت في كان... لكان من المحال بالتأكيد الكتابة في الحال عما شاهدت، لهربت الكلمة، لوقعت في حيرة أمام احترام ضرورات النشر، لوجدت صعوبة في رمي هذا الثقل الذي عبأ رأسي, هذه البلبلة التي عصفت بروحي. لحسن الحظ لم أكن في كان، لكن في باريس، حيث عرض الفيلم أيضاً، وفي الزمان نفسه فكان استمتاعاً خالصاً بعيداً عن ضرورات النشر!