بين قائل إن هذه المسرحية هي أشبه برقصة باليه مضبوطة ضبطاً كلاسيكياً مدهشاً، الى واصفٍ إياها بأنها أجمل مسرحية كُتبت عن الحب الحقيقي، وصولاً الى من وَصَفَها بأنها «أفضل عمل فني وأدبي وَصَفَ ولادة الحب وحياته وشجاعته في مواجهة تناقضاته الداخلية»، عاشت مسرحية «لعبة الحب والمصادفة» للكاتب الفرنسي ماريفو، حياتها التي تبلغ حتى اليوم نحو قرنين وثلاثة أرباع القرن، ولا تزال مع هذا «شابة طازجة تخاطب الحواس والمشاعر في كل مرة تقدم فيها». والحال أن هذه المسرحية التي عرضت للمرة الأولى في العام 1730، لا يخلو منها موسم عروض، في فرنسا أو في غيرها، حتى في أيامنا هذه. ومع هذا، ليست مسرحية «لعبة الحب والمصادفة» مسرحية رومنطيقية، بل هي في الأساس مسرحية كوميدية، ومبنية بالتحديد على نمط كان كلاسيكياً في ذلك الزمن، يقوم على المخادعة وقلب الهوية ومناورات الكواليس، ولعبة التقاطعات بين الخدم وسادتهم. لقد استخدم ماريفو كل هذه العناصر، لكنه استخدمها ليقدم «تحية» الى الحب الحقيقي. ثم أكثر من هذا، عبّر عن كل هذه العناصر في أسلوب هندسي متميز، يسيطر على المسرحية من أولها الى آخرها، مزوِّداً إياها ببعد تشويقي بالكاد يترك للمتفرج فرصة التقاط أنفاسه. *تدور حبكة «لعبة الحب والمصادفة» حول الشاب الثري والوسيم دورانتي، الذي كان والداه خطبا له من دون معرفته المسبقة أو رضاه، فتاة لا يُعرف عنها سوى اسمها، فقرر ان يقوم بدراسة أخلاقها وشخصيتها قبل أن يتورط في الزواج، وهكذا إذ يصطحب معه خادمه آرلكان، يقوم بزيارة الى بيت أهل الشابة وقد آلى على نفسه أن ينفذ خطة في غاية البساطة: في منزل آل الفتاة، سيزعم انه هو الخادم آرلكان، وأن هذا الأخير هو دورانتي. وهكذا يتاح له أن يراقب الفتاة ويدرس ردود فعلها بهدوء ليتخذ قراره في نهاية الأمر. وتسير الخطة بنجاح... لكن ما لم يكن دورانتي أدخله في حسابه، هو أن الفتاة، واسمها سيلفي، كانت أكثر احتيالاً منه، إذ إنها هي الأخرى، تبادلت الشخصية - أمام دورانتي وخادمه - مع وصيفتها المدعوة ليزيث. وهكذا، منذ اللقاء بين السيد وخادمه، والفتاة ووصيفتها، يصبح لدينا ذلك الوضع المعقد: فالسيدان صارت لهما سمة الخادمين وهويتهما، والخادمان صارت لهما سمة السيدين: صار دورانتي آرلكان والعكس بالعكس، وصارت سيلفي ليزيث والعكس بالعكس. أما الوحيدان اللذان عرفا بخطة سيلفي، فكانا شقيقها ماريو ووالدها أورغون. وهكذا راحت تنبني الأحداث وسط هذه الشخصيات وفي هذا المناخ، فما الذي سيحدث: سيلفي الحقيقية (تحت سمات الخادمة ليزيث) ستستاء من تصرفات دورانتي المزيف، والذي تعتقد انه عريسها العتيد، وتجده مبتذلاً لا يليق بأن يكون زوجاً لها. وفي المقابل، فإن آرلكان - دورانتي المزيف - سيهتم حقاً بليزيث، الخادمة، وقد اتخذت لنفسها سمات سيدتها. أما دورانتي، وله مسوح الخادم، فسيلفت على الفور نظر سيلفي فتفضّله على «سيده»، وتقرر انه هو الذي سيكون حبيبَها من دون أن تأبه حقاً لفكرة أنه «خادم» وليس «سيداً». ودورانتي نفسه يُغرم ب «الخادمة»، ولا يبدو عليه أي اهتمام ب «السيدة»، ويقرر انه سيتخذ من هذه «الخادمة» أميرة لفؤاده، من دون أن يلقي اعتباراً للفوارق «الطبقية» بينهما. ف «الحب» بالنسبة اليه لا علاقة له بهذه «الفوارق». للقلب ما يهوى وللمجتمع أن يخضع ويتبع خطى القلب. *وهكذا، على هذا النحو، يختلط كل شيء بكل شيء، وتدور الأحداث وسط صراعات ونزاعات تتتالى في شكل مضحك ولكن عميق الدلالات في الوقت نفسه، فوق خشبة تتحرك عليها الشخصيات من فصل الى فصل. تتحول الخشبة الى ما يشبه ميدان القتال، كل واحد يهاجم الآخر ويحاول فضحه، من دون أن يدري في أي اتجاه يجب أن يكون هذا الفضح. ولعل اللحظات الأكثر قوة هي تلك التي يطالعنا فيها الخادمان الحقيقيان: آرلكان وليزيث، وكل منهما يتصرف كما لو أنه حقاً يحب شخصاً أدنى منه طبقياً: سيلفي بالنسبة الى آرلكان، دورانتي بالنسبة الى ليزيث... لكن الإثنين يرفضان هذا «الحب» المفروض عليهما، ليكتشفا أنهما مغرمان بعضهما ببعض، هما ابنا «الطبقة العليا» اللذان ليسا في الحقيقة سوى «ابني الطبقة السفلى». وهنا في هذا الإطار بالتحديد، يمكن أن نرى العنصر الأقوى في هذه المسرحية من الناحية الكوميدية، ولكن أيضاً من الناحية الفكرية، ناهيك بالسمات الطبقية والاجتماعية الواضحة في خلفية فكرانية المسرحية ككلّ، وهي بالتأكيد فكرانية اشتغل عليها في دراسات متنوعة عدد كبير من الباحثين، بصرف النظر عن تقييمهم للمسرحية في حد ذاتها، او لإنتاج كاتبها بشكل عام. *المهم ان سيلفي، في عودة منا الى أحداث المسرحية، تكتشف خدعة دورانتي قبل أن يكتشف هو خدعتها. لكنها مع هذا، ستواصل لعبتها مُوهِمَة حبيبها بأنها هي الوصيفة. لكن دورانتي - الذي لم يكن اكتشف حقيقة حبيبته بعد - يرى أنه يحبها من دون اهتمام بمن تكون: إن فؤاده هو الذي اختار. ولم يعد في وسعه أن يقبل عن حبيبته هذه بديلاً. خادمة؟ فلتكن... لأنه مع هذا يريد الاقتران بها، وها هو يطلب يدها وقد فرغ صبره... وتقرر هي ان تستمر بعد في لعبتها بعض الوقت، أملاً في أن تختبره أكثر وأكثر. وهكذا تقنع أخاها ماريو بأن يساعدها في ايصال اللعبة حتى النهاية: سيزعم امام دورانتي انه هو - أي ماريو - عشيق «ليزيث» (سيلفي في الحقيقة). وهنا أمام «انكشاف» هذه «الحقيقة» الجديدة، يشعر دورانتي بأنه طعن في غرامه وجرح في فؤاده ويقرر الرحيل. وهنا لا يعود في وسع سيلفي إلا ان ترضى عن صدق غرامه، وتكشف له، جَزِلَةً، الحقيقةَ... ويتفقان حتى على موعد الزواج. وهكذا يقفل الستار أخيراً على الغرام، وقد تحقق بين دورانتي وسيلفي الحقيقيين من ناحية، وآرلكان وليزيث الحقيقيين من ناحية ثانية. *مند عرضها للمرة الأولى، حيث قام بأدوارها في ذلك العرض ممثلون ايطاليون كانوا واسعي الشهرة في ذلك الحين، اعتبرت هذه المسرحية «ضربة معلم» من جانب ماريفو، إذ إنه استخدم كل عناصر مسرح المقالب لتقديم موضوع في منتهى الجدية والقوة، جاعلاً الحب بطل المسرحية الأول والأخير. و هنا لا بد من ان نذكر ان النقاد والباحثين كثيراً ما تحدثوا وعلى مر الزمن دائماً عن القوة التشكيلية لهذه المسرحية ولبعدها الهندسي، حيث ان ماريفو عرف كيف يبني تشابك أحداثها وتقاطع الشخصيات من دون أن يترك مجالاً لأي وهن. وقيل دائماً إن «بساطة» موضوع المسرحية وقدرة معانيها العميقة على الوصول الى متفرجيها، أحدثتا نقلة مهمة في مسار المسرح الكوميدي، ولكن أيضاً، في ظهور الحب الحقيقي محوراً أساسياً للعمل المسرحي. *وبيار كارلي دي ماريفو، الذي عاش بين 1688 و1763، أي في ذلك الزمن الذي عاش المسرح الفرنسي واحدة من أولى حقباته الكلاسيكية الكبرى، اشتهر أيضاً بوصفه صحافياً وروائياً، لكن أهميته الكبرى تظل في مسرحياته الكثيرة والقوية التي كتبها لتمثَّل في زمنه. وقد غلب على مسرحياته الطابع الكوميدي الهادئ، إذ من بين أكثر من ثلاثين مسرحية كتبها بين 1709 و1761، هناك غالبية عظمى من المسرحيات الكوميدية، في مقابل مسرحية تراجيدية واحدة، لم تحقق أيَّ نجاح حين عرضت. وهكذا، شكّل هذا الكاتب في المسرح الهزلي، ثالثةَ زوايا مثلث ضَمَّه وموليير وبومارشيه. ومن بين أبرز أعمال ماريفو: «مفاجآت الحب» و «هانيبال» و «الأمير يتنكر» و «الخادمة المزيفة» و «انتصار الحب» و «اعترافات مزيفة» و «الزوجة المخلصة» وسواها من أعمال لا تزال حية حتى اليوم. [email protected]