يُعد الإعلام أهم الوسائل المؤثرة في المعارف والآراء لدى المجتمعات المتطرفة، فيما يُعد واحداً من سياسات إقناع الشعوب النامية المعتدلة. وبالأمس جَرَّ الإعلام «النفعي» حكومات دول إلى أضابير التاريخ، واليوم تنتهج أكبر جامعة سعودية نفس هذا النهج الإعلامي بتقارير وأخبار صحفية مدفوعة القيمة لتوهم الوطن والمواطن في إمكانية تحقيق منجزات أكاديمية وصناعية غير منطقية وبسرعة البرق، وما مغامرة الهدر المالي لتصنيع سيارة غزال-1 إلاَّ أكبر شاهد على هذا التوجه الخطر. لذلك فوجئت بمقال للدكتور علي بن شويل القرني (صحيفة الجزيرة – 21 مايو 2011) يُعلِّق فيه على مقالي «تصنيف الجامعات وإعلان الرياض: ذَهَبَت السَكْرَة ... وجاءت الفكرَة» بصحيفة «الحياة» في 15مايو 2011، والمفاجأة لم تكن بشأن تصديه للرد على المقال، خصوصاً أنه المشرف على الإدارة والتحرير لصحيفة جامعة الملك سعود «رسالة الجامعة»، وكذلك المشرف على كرسي صحيفة «الجزيرة» للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود. أقول المفاجأة لم تكن لمسببات ودوافع الرد، ولكن للحيرة الكبيرة التي واجهتني في فهم «ماذا» يريد الدكتور القرني أن يقول؟!. سؤال المليون هذه المفاجأة كانت في الصياغة «الملعبكة» للمقال، حتى ظننت أنني أقرأ أجزاء من «الكتاب الأخضر» لملك ملوك العالم، لكثرة التعارض والتضارب بين الكلمات والمعاني التي يحاول الدكتور القرني الوصول لها. وازدادت مفاجأتي أو بالأحرى حيرتي عندما قرأت في نهاية المقال بأنَّ الدكتور القرني يشغل منصب رئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال بالجامعة، ما يعني أنه أستاذ «بروفيسور» في علم الاتصال الإعلامي. وحتى لا نُطيل على القارئ في معرفة هذه الحيرة أو المفاجأة، نقرأ عليه مُقدِّمَة مقال الدكتور القرني: «قرأتُ مقالَيْن أخيراً للزميل والصديق الدكتور محمد القنيبط، وإذا كان لي أن أصف هذين المقالين ومقالات سابقة فهي أقرب إلى المقالات التحفيزية، وليست كما يراها البعض أنها مقالات محبطة، تصيب في الصميم، وتعيد إلى الخلف». كلام جميل، كما يبدو لأول وهلة! ولكن مهلاً، لنقرأ خاتمة مقال الدكتور القرني حين كتب «أرى أن مقالات الدكتور القنيبط هي تحفيزية في المقام الأول؛ لأننا من داخل الجامعة ندرك مدى النجاح الهائل والفارق النوعي الذي يحدث حالياً بجامعة الملك سعود، ونعلم أن رؤية أي شخص يتبنى رؤية مثل هذه المقالات هي رؤية رجعية، وتعيدنا إلى الخلف»! هل يمكن أن يكون الشخص «تحفيزياً» وفي الوقت نفسه يكون «رجعياً»؟.. هذا ما حاول الدكتور القرني أن يوضحه لقرائه عن محمد القنيبط ومقالاته. العهد القديم وتزداد الحيرة عند قراءة التخبط في عبارات الدكتور القرني التي يصف فيها مقالاتي، فها هو يكتب عبارة مخيفة قائلاً: «ولربما قراءة متعمقة لمقالات الدكتور القنيبط تجعلنا بل تحثنا على العودة إلى المربع رقم واحد، وتريد أن تعيدنا إلى أربع سنوات ماضية، وتمسح كل الإنجازات التي تحققت للتعليم العالي ولجامعة الملك سعود على الخصوص.. فمقالاته تُذكِرنا بالعهد القديم، وتشدنا بقوة لتَذكُّر تلك المرحلة التعيسة في حياة الجامعات السعودية.. والمسكوت عنه في خطاب الدكتور القنيبط هو أنه يريدنا أن نعود إلى الوراء، ونسحب كل ملامح التقدم والإنجازات في الجامعات السعودية، خاصة في جامعة الملك سعود، التي تحققت أخيراً». باختصار، فإنَّ الدكتور القرني يَقطَع بالقول إنَّ الجامعات السعودية قبل أربع سنوات كانت «تعيسة»، ثمَّ خلال أربع سنوات فقط تَفَجَّرت على أرض جامعة الملك سعود الإنجازات الأكاديمية والصناعية العالمية. ثم يزيد من حيرتنا وتَعجُبنا بل مفاجئتنا، حين يكتب: «ما يريده الدكتور القنيبط هو أن تظل جامعة الملك سعود كما كانت قبل أربع سنوات: طلاب مقمعون، أساتذة محبطون، وجامعة أشبه بمدرسة ثانوية». إذا كان كلام الدكتور القرني صحيحاً بأنَّ أربع سنوات من إدارة الدكتور عبدالله العثمان لجامعة الملك سعود صنعت هذه الإنجازات العالمية العظيمة باحتلال المركز الأول على جامعات العالمين العربي والإسلامي وتصنيع الجامعة لسيارة ستبيعها بعد أقل من ثلاث سنوات بسعر 35 - 45 ألف ريال، فيجب محاكمة مديري جامعة الملك سعود خلال ال 50 سنة التي سبقت إدارة الدكتور العثمان بدءاً بالدكتور عبدالله الفيصل وانتهاءً بالدكتور عبدالعزيز الخويطر، ذلك أنهم وعبر نصف قرن لم يُنتجوا إلاَّ «طلاباً مقمعين، أساتذة محبطين، وجامعة أشبه بمدرسة ثانوية». من المؤسف حقاً أنَّ أستاذاً متخرجاً في جامعة عريقة (جامعة مينيسوتا الأميركية) يُصدِّق أنَّ الجامعة خلال أربع سنوات عداً ونقداً ممكن أن تقفز قفزات عملاقة على جميع الجوانب الأكاديمية والبحثية بل وحتى الصناعية. فالدكتور القرني لا يُصدِّق ذلك فحسب، بل يعتبر كل من يتبنى رؤية مخالفة بأنَّه رجعي، حيث قال: «رؤية أي شخص يتبنى رؤية مثل هذه المقالات هي رؤية رجعية، وتعيدنا إلى الخلف ولا تهدف إلاَّ إلى عودة الجامعة إلى مدرسة ثانوية، والطلاب إلى طلاب دون المستوى الجامعي، والأساتذة إلى أساتذة تقليديين». لم أُغادر الجامعة أما أغرب ما كتبه الدكتور القرني في مقاله فكانت المغالطة التالية: «يبدو أنَّ الدكتور القنيبط لم يدخل قسماً أو كلية منذ سنوات؛ فلو دخل أي كلية سواء كلية المجتمع أو كلية الآداب أو كلية الهندسة أو كلية الطب أو التربية أو حتى كلية الزراعة التي كان الدكتور القنيبط أحد الأساتذة المميزين فيها فسَيُذهَل للفكر الجديد والتوجهات العالمية في هذه الأقسام والكليات». لماذا الغرابة؟!.. لأنَّني لم أغادر جامعة الملك سعود منذ عودتي من أميركا عام 1984، بل استمر عملي بها حتى خلال ال 12 سنة من عضوية مجلس الشورى، حيث كنت أُدرِّس بقسم الاقتصاد الزراعي وأحتفظ بمكتبي حتى الآن. ومنذ انتهاء عضويتي بمجلس الشورى قبل حوالى ثلاث سنوات، وأنا أعمل بقسم الاقتصاد الزراعي أستاذاً متعاقداً بعبء تدريسي كامل ودوام كامل. وبالتالي أتساءل: من الذي أعطى الدكتور القرني هذه المعلومة المغلوطة بأنني بعيد عن جامعة الملك سعود ولم أدخلها منذ سنوات عدة؟! وبالتالي، ولسوء حظ الدكتور القرني، لم يذهلني «الفكر الجديد والتوجهات العالمية في هذه الأقسام والكليات»، كما تخيلها. بل على النقيض من ذلك، أصابني الذهول من الفساد الأكاديمي في المجال البحثي الذي أصاب الجامعة منذ أربع سنوات، والمتمثل بتوجه الجامعة على أعلى مستوياتها لشراء أكبر عدد ممكن من الأبحاث في مجلات ال ISI بأي وسيلة ممكنة عبر برامج زمالة عالم وأستاذ زائر وعالم مميز وعلماء نوبل والاستقطاب والكراسي البحثية ممن همهم المال وليس قيم وأخلاق البحث العلمي، كل ذلك لتحقيق هدف القفز البهلواني على التصنيفات العالمية للجامعات. ومع ذلك يُغالِط الدكتور القرني مدير الجامعة «التقدمية» حين قال: «وما أخشاه في هذه المقالات هو عدم فهم دور التصنيفات العالمية، وكونها وسيلة وليست غاية كما ذكرها القائمون على أكثر الجامعات السعودية». فقد نقلت (صحيفة الوطن – 17 مايو2011) عن مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبدالله العثمان القول: «إنَّ جامعته إن لم تدخل في تصنيف أفضل 300 جامعة في تصنيف شنغهاي للعام 2011 فإنها تضيع الوقت والمال». فأيهما نُصدِّق؟!.. وهل كلام المدير يعني أنَّ التصنيفات وسيلة أم غاية وهدف تستميت الجامعة لتحقيقه؟!. الأمانة الأكاديمية يقول الحديث الشريف: «من سنَّ سُنَّة حسنه، فله أجرُها وأجرُ مَن عَمِلَ بها، ومن سنَّ سُنَّة سيئة فله وِزرها ووِزر من عَمِلَ بها»، وجامعة الملك سعود خلال الأربع سنوات الماضية سنَّت سُنَّة سيئة بل خطرة جداً في الجامعات السعودية ألا وهي التسابق المحموم على القفز في التصنيفات العالمية للجامعات وما تَطَلَّبه ذلك من «شراء» للأبحاث العلمية. هؤلاء الأساتذة «التقدميون» في نظر الدكتور القرني منذ أربع سنوات هم الذين استطاع أحدهم نشر 48 بحثاً عام 2010 في مجلات ال ISI، في حين استطاع الآخر نشر 28 بحثاً في مجلات ال ISI عام 2010 مقارنة ببحثين بالتمام والكمال خلال أربع سنوات قبل 2010؟! وليت الدكتور القرني توقف عند تشخيص الدكاترة والكليات والطلبة في جامعة الملك سعود قبل وبعد العهد «العثماني»، كما وصفه عبدالرحمن السدحان (صحيفة الجزيرة - 10 يناير 2011) تحت عنوان «التحول الإبداعي بجامعة الملك سعود في عهدها العثماني»؛ بل تجده يَحشُر معلومة مغلوطة ليُدلِّل على عَظَمَة العهد الأكاديمي «العثماني» والإدارة الأكاديمية «غير الرجعية». فها هو يقول في معرض دفاعه عن عَظَمَة التصنيفات العالمية للجامعات: «وللمعلومية معظم البحوث التي تعتمدها التصنيفات العالمية وفق مجلات ISI هي بحوث محلية، ومعظمها طبية أنتجها مستشفي الملك خالد ومستشفى الملك عبدالعزيز الجامعيان التابعان لجامعة الملك سعود». بمعنى آخر، فالدكتور القرني يقول إنَّ كلية الطب بجامعة الملك سعود تحتل المركز الأول على كليات الجامعة بمعيار عدد الأبحاث المنشورة.. ولكن واقع الحال خلاف ذلك تماماً، حيث تحتل كلية الطب المركز الرابع في عدد الأبحاث المنشورة، في حين احتلت كلية العلوم المركز الأول ثم كلية الصيدلة فالهندسة (البوابة الإخبارية لجامعة الملك سعود – 1 فبراير 2011). باختصار، فإنَّ الاعتراض ليس على كثرة البحوث المنشورة ولكن على تسجيل بعض باحثي جامعة الملك سعود كأسماء ثانية ورابعة - أو ما يعرف بالباحث المسافر Passenger Author - في بحوث اقتصرت مساهمتهم في الغالب على الدعم المادي. كذلك فإنَّ الاعتراض ليس على الاستعانة بالفائزين بجوائز نوبل، ولكن على أن محاضرة واحدة في السنة مدتها ساعة تُخَوِّل الجامعة إدراج اسم المستقطبين الفائزين بجائزة نوبل في لوحتها الشرفية. بمعنى آخر، فإنَّ «الفيصل» في الوقوف على حقيقة «سعودية» هذه الأبحاث هو جواب السؤال: «كم هي نسبة الأبحاث المنشورة في مجلات ال ISI ومجلتي ساينس ونيتشر التي كان فيها باحثو جامعة الملك سعود هم الباحثون الرئيسيون»؟. خلاصة القول إنَّ معيار القوة البحثية لأية جامعة ليس التصنيفات العالمية، بل هو عدد جوائز نوبل التي فاز بها علماء هذه الجامعة أو تلك. لذلك لا غرابة أن تحتل جامعة هارفارد المركز الأول عالمياً بسبب فوز علمائها ب 32 جائزة نوبل، في حين لم تفز جميع جامعات دولة الصين بسكانها ال 1,3 بليون نسمة إلا بجائزة نوبل واحدة عام 2009. كذلك فإنَّ المؤسسات والمراكز الدولية لتصنيف الجامعات هي التي تطارد الجامعات المشهورة والمحترمة لتضعها في تصنيفها حتى يكسب الصدقية، وليس العكس كما هو حادث من دعوات بعض الجامعات السعودية لمسؤولي هذه التصنيفات لزيارتها. التحريض ثم ينتقل الدكتور القرني لاتهامي بالتحريض على جامعة الملك سعود، حيث كتب يقول: «وقد لمسنا جانباً تحريضياً في المقالات كنت لم أتوقعه من الدكتور الزميل القنيبط؛ حيث حاول أن يُحفِّز مؤسسات الرقابة في الدولة على جامعة الملك سعود». وليت الدكتور القرني لم يتطرق إلى هذه الجزئية، حيث إنَّ الإدارة «التقدمية» لجامعة الملك سعود التي يدافع عنها اشترت يوم الأحد 22 مايو 2011 صفحة كاملة وبالألوان في جميع الصحف السعودية بمئات آلاف الريالات لنشر وقائع المؤتمر الصحفي لمدير الجامعة ووكلائه الذي دشنوا فيه الخطة الإستراتيجية للجامعة «KSU 2030». وبعيداً عن تهمة التحريض، وحيث إنَّ الدكتور القرني قال إنَّ مبالغ الكراسي البحثية وأموال أوقاف جامعة الملك سعود «خط أحمر لا يمكن المساس به»، فنسأل الزميل العزيز: هل هناك بند في موازنة الجامعة يسمح لها بتبذير ملايين الريالات على إعلانات في الصحف المحلية من شكر المتبرعين للكراسي البحثية والأوقاف إلى بقية فرقعاتها الإعلامية؟!.. لماذا هذا السؤال؟.. لأنه عندما نشرت هيئة حقوق الإنسان (وهي مؤسسة حكومية) قبل ثلاث سنوات إعلان تعزية بوفاة أحد منسوبيها على ربع صفحة في إحدى الصحف المحلية، لم يجد المدير المالي بنداً يجيز لرئيس الهيئة آنذاك تركي بن خالد السديري دفع عشرة آلاف ريال قيمة إعلان التعزية، فقام السديري بدفعها من «جيبه» الخاص. وبالتالي فإن رأى الدكتور القرني في مقالي تحريضاً على جامعة الملك سعود لسبب هدرها ملايين الريالات من موازنتها على الإعلانات الصحفية لفرقعاتها الإعلامية منذ أربع سنوات، فليكن؛ بل إنني أدعو هيئة مكافحة الفساد لفتح ملف للجامعة بهذا الخصوص. أما أعجب ما جاء في مقال الدكتور القرني، فهو دفاعه عن المسرحية الممجوجة لكذبة تصنيع جامعة الملك سعود لسيارة أسمتها «غزال – 1»، حين يقول: «ومن الأمور التي نستغرب فيها خوض المقال هو التعرض لسيارة «غزال – 1»، وهي من أفضل الإنجازات الوطنية التي تحققت لبلادنا خلال تاريخنا الصناعي». هل بالفعل يجهل الدكتور القرني تاريخنا الصناعي حتى يخرج بهذا الاستنتاج الغريب الذي لا يقول به طالب في المرحلة الابتدائية؟!.. كيف يقول أستاذ الإعلام والاتصال والمشرف على صحيفة جامعة الملك سعود والمشرف على كرسي صحيفة «الجزيرة» للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود، إنَّ استيراد سيارة جيب مرسيدس وعمل «مكياج» خارجي لها وتسميتها «غزال – 1» هو أفضل إنجاز وطني تحقق لبلادنا خلال تاريخنا الصناعي؟.. هل يجهل الدكتور القرني شركة «سابك» ومصانعها العملاقة ومنتجاتها التي وصلت غالبية دول العالم؟! ولكن مهلاً، فهناك ما سيغير وجهة نظر الدكتور القرني في واقعية صناعة سيارة «غزال – 1»، التي وصفها بأنها «أفضل الإنجازات الوطنية». فالسيارة التي رأيتها يا دكتور «معروضة» ليست هي التي سيتم تصنيعها وبيعها في السوق السعودية نهاية عام 2013 بسعر 35 - 45 ألف ريال، بل وليست حتى بنفس الاسم. فقد صرَّحَ المدير الفني لمشروع سيارة «غزال» الدكتور سعيد درويش بأنَّ «شكل السيارة الجديدة التي لم يُحدَّد لها اسم حتى الآن يختلف تماماً عن شكل سيارة «غزال – 1» التي صنعتها الجامعة منذ فترة» (صحيفة الحياة - 23 مايو 2011). هل حقاً تضحك جامعة الملك سعود علينا بمسرحية صناعة سيارة؟.. أم أنها تستخف بعقل كل من يسير على أرض بلاد الحرمين الشريفين؟.. أم أنَّ الجامعة تعتمد على ضعف الذاكرة العربية وتُغيِّر وتُبدِّل في شكل واسم «أعظم إنجاز وطني»؟.. تُرى من يدير، أو بالأحرى من يلعب بالمال العام للاستمرار في مسرحية «مكياج» سيارة غزال: مدير الجامعة أم المدير الفني غير السعودي للمشروع؟.. هل بالفعل تُترَك الأموال العامة بأيدي غير سعودية لتلعب بها وتمارس تجاربها البليدة وتضحك على الوطن بأكمله قائلة سنصنع لكم سيارة سعودية بأيدي سعودية خلال 2 - 3 سنوات ونبيعها بسعر 35 - 45 ألف ريال، في حين أنَّ الجامعة لم تنته بعد من دراسات الجدوى الاقتصادية للمشروع، كما صرح بذلك مدير الجامعة؟ لو أنَّ الدكتور القرني ناصح أمين للدكتور العثمان، لقال له: أوقِف مشروع سيارة «غزال – 1»، فهذا المشروع هو الهدر بعينه للمال العام، بل استخفاف بحق الوطن والمواطن. لكن للأسف جاء الدكتور القرني مدافعاً ومنافحاً عن هذه المسرحية لهدر المال العام قائلاً: «أما ما أشير إلى تعثر شركات سيارات أميركية فهذا لا يعني المشروع بشيء؛ فقد تتعثر شركات هناك، ولكن شركات أخرى في كوريا أو المملكة أو ماليزيا تظل صامدة وناجحة.. ونتمنى أن يأتي يوم ويقود الدكتور القنيبط بنفسه هذه السيارة السعودية، وفي حينها أتمنى أن أكون إلى جواره في مقعد القيادة بمشيئة الله»!.. أي أنَّ الدكتور القرني يقول: «عنز ولو طارت»! أكبر الكبائر الأكاديمية! كنت أظن أنَّ الدكتور القرني سيركز في مقاله على تهمة «شراء» الأبحاث في جامعة الملك سعود، أو أنه سيتطرق إلى تشكيكي بصدقية منح الاعتماد الأكاديمي من مؤسسة أميركية لكلية المجتمع بالرياض التي لم يتجاوز عمرها 8 سنوات والموجودة في بناية مكاتب تجارية بشارع ال 60 بالرياض وعدد كبير من أساتذتها من جامعات أجنبية لا تعترف بشهاداتها وزارة التعليم العالي. ولكنه لم يفعل، فهل صمته يعتبر إقراراً بوجود هذه المخالفات الأكاديمية المُحرَّمة في الفضاء الأكاديمي المحترم؟ ولكن الموضوع لم يتوقف عند هذه المأساة الأكاديمية في جامعة الملك سعود، بل تعداه إلى توجه خطر في هذه الجامعة لا يُنبئ بأي خير ولا يبعث على الاطمئنان في مسيرة إدارة التعليم الجامعي في مملكتنا الحبيبة. فقبل حوالى شهرين استقال عميد كلية الدراسات العليا بجامعة الملك سعود، وذلك قبل ثمانية أشهر من انتهاء الفترة الثانية لتعيينه عميداً، ليتم تعيين دكتور بدرجة علمية أقل من الدرجات العلمية لوكلاء الكلية نفسها. فالعميد المستقيل برتبة أستاذ (أو بروفيسور كما يحب البعض)، والعميد الجديد المُكلَّف برتبة أستاذ مشارك. وهذا في العُرف الأكاديمي، مخالفة بل من أكبر الكبائر الأكاديمية، حيث تُشبه حالة تعيين قائد عسكري برتبة أقل من العسكريين الذين يقودهم، وهو أمر مستحيل في العرف العسكري. قد يقول قائل إنَّ هذا التعيين أمر لا يستحق التهويل أو المزايدة عليه. ولو اتفقنا – وعلى مضض - مع هذا القول، فالجانب الخفي في موضوع استقالة عميد كلية الدراسات العليا يمكن معرفته من خلال التعرف على شخصية العميد المستقيل. حيث يشهد الجميع على تمتع العميد المستقيل بمستوى علمي وإداري أكاديمي رفيع جداً، حيث كان وكيلاً للكلية نفسها قبل توليه دفة العميد، إلى جانب تمتعه بشخصية فريدة ونادرة تفيض بالجانب الإنساني الراقي جداً من دماثة الخلق والتواضع الجم وكذلك شدة الحلم وسعة الصدر، والأهم من ذلك - لسوء حظه - عدم حبه للأضواء والإعلام. وبالتالي، وفي ظل وجود كل هذه الخصال النادرة من أكاديمية وإدارية وإنسانية، ألا يحق لنا التساؤل: لماذا يستقيل عميد قبل ثمانية أشهر فقط من انتهاء فترة عمادته الثانية؟.. وتزداد خطورة هذا السؤال إذا ما علمنا بالطبيعة الهادئة جداً وشدة الحلم وسعة الصدر والشخصية غير التصادمية للعميد المستقيل، وبالتالي: هل الاستقالة كانت طفحاً لكيل تدخل إداري مُتكرِّر من إدارة الجامعة، حاول العميد المستقيل طوال السنوات الثلاث الماضية التصدي له حتى جاءت القشة التي قصمت ظهر بعير جهاده ومقاومته الإدارية الأكاديمية؟ يبدو أنَّ هناك خلافاً كبيراً في الفكر الإداري «الرجعي» الذي أدار به العميد المستقيل دفة كلية الدراسات العليا خلال الثلاث سنوات الماضية، وبين الرؤية والفكر «التقدمي» للإدارة العليا بجامعة الملك سعود. وبالتالي، فالسؤال المطروح: هل وصل العميد المستقيل إلى حد الإحباط الكامل بأن يُقدِّم استقالته عندما عَجَزَ عن كبح تدخلات إدارية من خارج العمادة؟.. وبالتالي ثانية، فالسؤال المنطقي هو: لماذا جَدَّدَت إدارة الجامعة للعميد فترة ثانية في كرسي عميد كلية الدراسات العليا طالما أنه لا يُجاريها في فكرها ورؤيتها الإدارية «التقدمية»؟.. أم أنَّ أحد كبار الإداريين في الجامعة طفح به الكيل هو الآخر من المواقف «الرجعية» لهذا العميد المستقيل؟ أسئلة عدة مؤلمة وخطرة في آن واحد، يجب الوقوف عندها الآن حتى لا تأتي وزارة التعليم العالي بعد عدة سنوات لتَتَحفَّظ على الفكر الإداري «التقدمي» السائد حالياً في جامعة الملك سعود، كما تَحفَّظت على تصنيفات الجامعات المعتمدة على البحث، ونعض أصابع الندم لاتكالنا على «دواء عامل الزمن» وأنه سيحلِّ كل خلل ويُعالج كل زلل. جامعة أم دولة نفطية؟! أما أغرب الأخبار والتصريحات للإدارة «التقدمية» لجامعة الملك سعود وفرقعاتها الإعلامية خلال الأربع سنوات الماضية والتي استمات الدكتور القرني في الدفاع عنها وتبرير «منجزاتها»، ما نقلته (صحيفة الوطن 17 مايو2011)على لسان مديرها الدكتور عبدالله العثمان بعد تدشين الخطة الإستراتيجية للجامعة 2030 حيث قال: «إذا استمر ربط موازنة الجامعة بسعر الدولار، فلن تتطور في هيكلتها المالية، ولا يمكن للجامعة أن تستمر معتمدة على الدولة في تمويلها». فعند قراءتي لهذا التصريح ظننت أنَّ القائل خبير اقتصادي في المجلس الاقتصادي الأعلى يتحدث عن إيرادات موازنة الدولة، أو أنَّ الحديث يتعلق بشركة تصدير نفط خام. ولكن خاب ظني، لأنَّ مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبدالله العثمان كان أحد دكاترة قسم علوم الأغذية والتغذية بكلية الزراعة، والخبر يتحدث عن موازنة جامعة الملك سعود وليس موازنة دولة نفطية تعتمد موازنتها على تصدير النفط الخام. وبالتالي تساءلت: لماذا أقحم المدير نفسه في أمور نفطية وعُملات دولية بعيدة كل البعد عن تخصصه أو وظيفته؟.. تُرى هل هي عدوى الفرقعات الإعلامية من تصنيع سيارة «بالبنزين» ثم تصنيع سيارة بالكهرباء التي بشرنا بها المدير الفني لمشروع سيارة غزال، ثم السعي الحثيث للدخول ضمن أفضل 100 جامعة رائدة عالمياً؟ أرَقنا ماء وجوهنا أكثر ما يلفت الانتباه لما أسماه الدكتور القرني «بالعصر التقدمي» أو «العهد العثماني» كما وصفه الدكتور عبدالرحمن السدحان، لإدارة جامعة الملك سعود خلال السنوات الأربع الماضية، الذي تميز عن بقية الجامعات بكثافة ومداومة شراء إعلانات في الصحف المحلية، هي إنجازاتها في نشاط أوقاف الجامعة. فالضخامة المالية لوقف جامعة الملك سعود «4 بلايين ريال» وسرعة جمعها مُلفِت للنظر ويستحق الإعجاب ليس في العالم العربي فحسب بل على المستوى العالمي، خصوصاً أنَّ مدير الجامعة اضطر إلى إراقة ماء وجهه لتحقيق هذا الهدف، فها هو يقول: «هذه الأوقاف جاءت بعد أن أرقنا ماء وجوهنا أمام رجال الأعمال حتى تَمَكنَّا من الحصول عليها، ولم تكن لتأتي لولا أنَّ رجال أعمال أيقنوا بأنَّ مجلس الجامعة يمثل أطياف الوطن كافة ونسيجه الواحد» (صحيفة الحياة 18 مايو 2011). ومع شدة الألم في إراقة ماء الوجه العربي، ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا الغالبية العظمى من مبالغ أوقاف جامعة الملك سعود جاءت من المقاولين الرئيسيين لمشاريع الجامعة، والتي أعفيت من نظام المنافسات الحكومية؟.. ولماذا لم يتبرع هؤلاء الأفاضل لأوقاف الجامعات السعودية الأخرى؟.. أليست تلك الجامعات تمثل «أطياف الوطن كافة ونسيجه الواحد»؟.. أم أنَّ هذه التبرعات بآلاف الملايين من الريالات إنما هي «رد جميل» لمشاريع جامعة الملك سعود ببلايين الريالات قُصِرَت على هؤلاء المتبرعين للوقف بدون منافسات مع المقاولين الآخرين في المملكة «بخلاف مشاريع بقية الجامعات السعودية»، وليست بأي حال من الأحوال إكراماً لإراقة الماء الغالي للوجه العربي الصحراوي، فكم مرَّة أراق أصحاب الأمراء والوزراء رؤساء الجمعيات الخيرية والعلمية مياه وجوههم عند كثير من رجال الأعمال هؤلاء ليتبرعوا ب100 أو 200 ألف ريال، وفي حالات كثيرة لا يجدون سوى آذان صماء وأيدٍ مكفوفة؟!. أرجو ألاَّ تكون إجابات هذه التساؤلات من النوع الاستسلامي: لا تُرمى إلاَّ الشجرة المثمرة.. من لا يعمل لا يخطئ.. إما لك أو لأخيك أو للذئب. صَديقُك مَنْ صَدَقك الإنسان العربي في عمومه شبيه جداً بتقسيمات الشعر العربي إلى هجاء ومديح، ولا يوجد شيء اسمه شعر النقد. فالشاعر الذي لا يمدح، فهو لا محالة يهجو، باستثناء بعض قصائد أو أبيات الحكمة والتفاخر. وبالتالي فإننا في الغالب الأعم لا نرتاح للنقد، بل نحارب كل من ينقد، وعندما تعيينا الحجج والبراهين نلجأ إلى كيل التهم من الشخصنة والحسابات المشخصنة والمواقف المسبقة وتكرير المواضيع، بل قد نصف الكاتب الناقد بانخفاض حبه لوطنه وافتعاله المواضيع واختراع السلبيات وتجاهل الإيجابيات. وبسبب هذه النظرة الغريبة اليائسة في الحكم على الكتابات النقدية أو التي تلفت النظر إلى «نصف الكأس الفارغ»، تجد أنَّ معايير المجتمع لتقويم عمل المسؤول الحكومي تقلصت إلى معيارين لا ثالث لهما، بغض النظر عن طبيعة الجهاز الحكومي. المعيار الأول: هو حجم التغطية الإعلامية للمسؤول. فكلما زادت وتكررت التغطية الإعلامية لأنشطة مسؤول قيادي حكومي، أصدر المجتمع حُكمه بأنَّ هذا المسؤول فريد في زمنه عظيم في إنجازاته، بغض النظر عمَّا إذا كانت التغطية الإعلامية مدفوعة القيمة أم لا، أو أنَّ هذه الأنشطة والإنجازات مجرد فرقعات إعلامية. المعيار الثاني: هو المعيار «الخرساني»، والمتمثل بحجم الإنشاءات والمباني التي استطاع المسؤول جلبها لجهازه. فكلما زاد عدد المباني كان حكم المجتمع على هذا المسؤول بأنهَّ سابق لعصره ولم تنجب النساء مسؤول مثله، وكأنَّ تكاليف هذه المباني دفعها هذا المسؤول من حسابه الشخصي، أو أنَّ هذه المشاريع الخرسانية لم تَحدُث إلاَّ في جهاز هذا المسؤول. لذلك أجدني مضطراً لتكرار ما كتبته في نهاية مقالي السابق هنا في صحيفة «الحياة»، من أنَّ مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبدالله العثمان له إنجازات رائعة في إدارة دفة أكبر جامعة سعودية لا يُنكرها إلاَّ جاحد، ولكن في الوقت نفسه وَقَعَ خلال الأربع سنوات الماضية (ومازال يَقَعَ) في أخطاء لا يُجَمِّلها أو يَسكُت عنها إلاَّ من يُريد به السوء، أو مستفيد شخصياً من أخطائه. وبالتالي أطرح على الزميل المدير الدكتور عبدالله العثمان نصيحتين: الأولى: الابتعاد الكامل عن وسائل الإعلام. الثانية: الاستغناء عن كل من يُطَبِّل ويُزمِّر للجامعة وإنجازات مديرها، حتى لو كانت حقيقة مشاهدة وواقعاً ملموساً. * أكاديمي سعودي.