ثمة رسالة ذات أهمية استثنائية من الارقام المعلنة لنتائج الانتخابات الايرانية، موجهة الى الخارج والداخل على السواء. هذه الرسالة صادرة عن المؤسسة العسكرية - الدينية التي تحكم ايران، عبر مرشد الجمهورية. وهي موجهة الى الحلفاء والخصوم الذين توقعوا تغييرا في الاستراتيجية الايرانية نحو واقعية ما، لتقول لهم ان السياسة التي عبر عنها دائماً الرئيس احمدي نجاد في ولايته الاولى ما تزال تلحق الهزائم بالأعداء وتحقق المصالح الايرانية. وهي موجهة الى الاطراف الداخليين، محافظين واصلاحيين، المعترضين على طول مسافة إبعادهم عن السلطة، لتقول لهم ان حجمهم في ايران لن يتجاوز حدود الزينة في عملية انتخابية. معلوم ان المنصب الرئاسي في ايران، رغم كونه يستمد ولايته من الاقتراع الشعبي المباشر، يظل منصبا تنفيذيا في نظام «ولاية الفقيه» الذي يتوج المؤسسة العسكرية - الدينية وتفرعاتها الاجتماعية والاقتصادية. ومنذ ان دفعت هذه المؤسسة، قبل اربع سنوات، الشاب شبه المجهول على المستوى الوطني احمدي نجاد الى الرئاسة في مواجهة القطب الكبير رفسنجاني، بات واضحاً انها استخلصت الدرس من التجربة الفاشلة مع ولايتي محمد خاتمي الذي سعى الى التحرر من قيودها. وباتت تتمسك برئيس يكون جزءا منها، وناطقاً باسمها، يوفر عليها احتمال التدخل المباشر في مواجهة الاعتراضات والانتقادات الداخلية، ويبقي على حال التوتر والتصعيد مع الخارج، كما كانت الحال مع احمدي نجاد في ولايته الأولى. لقد حصر المرشد خامنئي خياره الرئاسي، قبل أسابيع من الاقتراع، بأحمدي نجاد. واضافت المؤسسة العسكرية - الدينية الى هذا الخيار تحذيراً من «ثورة مخملية»، أي من تغيير يستهدفها اذا فاز مير حسين موسوي المنافس الرئيسي لأحمدي نجاد. اذن، المطلوب اعادة انتخاب احمدي نجاد من اجل ابعاد أي تهديد باحتمال التغيير، خصوصاً ان شعار موسوي هو التهدئة على الجبهة الخارجية، ما قد يعرقل قدرة هذه المؤسسة على التعبئة حولها، في ظل التغيير في اللهجة الغربية ازاء ايران، ويوقعها بما اوقعها به خاتمي من الاضطرار الى المواجهة المباشرة. لكن الحملة الانتخابية انطوت على دروس مهمة. منها كشف الكلفة الاقتصادية الغالية التي دفعتها السلطة الايرانية ثمنا لسياستها، سواء في اعادة توزيع العلاقات الزبونية الداخلية ومشاريع التسلح او في تمويل سياستها الخارجية. والى سوء الادارة الاقتصادية التي دفعت التضخم الى ما فوق 20 في المئة والبطالة المعلنة الى حوالي 15 في المئة واتساع رقعة الفقر في المدن والارياف، تبخرت عشرات بلايين الدولارات في السنوات الاربع الماضية، من دون التمكن من معرفة مصيرها بعدما ألغى احمدي نجاد الهيئة المركزية المشرفة على مراقبة نفقات الموازنة، مع ما يعنيه ذلك من شبهات فساد على نطاق واسع. وهذا يعني ان السياسة الايرانية المستندة الى الايديولوجيا مكلفة جدا، وان الشعب الايراني هو الذي دفع ثمنها. الدرس الثاني هو ان الصراع على السلطة في ايران بين الأجنحة السياسية، وإن كان دائما تحت مظلة «ولاية الفقيه»، ارتدى هذه المرة طابعاً تصعيدياً كبيراً. وتظهر السجالات التي رافقت الحملة ان هذه النخب السياسية تتصادم بشدة في ما بينها في نزاعها على السلطة، بما ينذر بحملة توتر وقمع، في اطار تصفية حسابات الحملة. علماً ان احمدي نجاد معروف بتوجهه الانتقامي من خصومه. وبدأت نذر هذه الحملة من خلال مواجهات أمس في المدن الإيرانية. راهن كثر على تلك الايام القليلة من الحملة، والتي شهدت «تفلتا» من القيود الصارمة على السلوك في ايران. عنما نزل عشرات الآلاف الى الشوارع، في كبريات المدن الايرانية، ليتخالطوا ويسهروا ويمرحوا، مستفيدين من ذريعة المهرجانات الانتخابية، خصوصاً تلك التي كان ينظمها موسوي. وهذا ما اعطى انطباعاً بأن مسيرة غير قابلة للتراجع بدأت في ايران، قوامها الشرائح التي دعمت خاتمي في ولايتيه. وبات الرهان يتسع على اعلان فوز موسوي. وجاءت النتائج المعلنة بانتصار احمدي نجاد، محققاً ضعفي اصوات خصمه، لتترك مرارة واحباطا لدى كثيرين داخل ايران، وخارجها. لكن سيرة هذا الاحباط كانت معلنة عندما صرح خامنئي ان احمدي نجاد هو الأكثر تعبيراً عن الثورة الاسلامية.